تستمرّ المجازر بكل وحشية، وتستمر حرب الإبادة الجماعية والتجويع، ويبدو أن المجتمع الدولي آخذ في التطبيع مع هذه الأوضاع. لا عرب ولا مسلمين، ولا مؤسسات دولية، أو مجتمعاً دولياً يتجاوز خطوط التنديد، وإصدار البيانات والتحذير والمطالبة بوقف هذه الحرب المجرمة.
كلّ ما يتحرّك ولا يتحرّك في كل أنحاء قطاع غزة، يتعرض للقصف والتدمير، وقتل كل أسباب الحياة. تتغير المواقف والسياسات لكنها حتى الآن مشلولة، وغير قادرة على تجاوز الحماية والدعم الأميركي الذي يضع الولايات المتحدة في ذات الموقع من المسؤولية التي تتحمّلها دولة الاحتلال.
كم يحتاج الأمر من الدماء والدموع والعذاب حتى يقف المجتمع الدولي بقوة وفاعلية أمام ما يرتكبه شركاء الحرب الأميركيون والإسرائيليون؟
ثمة تغيّرات ستظهر آثارها خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً على الصعيد الأوروبي، حيث أطاحت عوامل متعددة من بينها ما يجري على ساحة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أطاحت بحكومات لن يكون آخرها فرنسا، بعد أن سبقتها بريطانيا.
الغريب أنّ مؤسسات العدالة الدولية، من "العدل العليا" إلى "الجنائية الدولية"، إلى المؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية، تتلكّأ في اتخاذ إجراءات عقابية مستحقة لوقف هذه الحرب الإجرامية.
تسعة أشهر، من هذه الحرب المجرمة، ولا يزال البعض ينتظر أدلّة وبراهين بينما الوقائع على الأرض تفقأ العيون.
قد علم الجميع أن "الجنائية الدولية" تتعرض لتهديدات وضغوط، مباشرة وعلنية من قبل دولة الاحتلال والولايات المتحدة، ما يكرّس منطق غلبة القوة، والمصالح الشخصية على العدالة، والقانون والمصالح والقيم الإنسانية العليا.
علناً وعلى رؤوس الأشهاد، يعلن نتنياهو، أنّه سيواصل الحرب الدموية حتى تحقيق كل أهدافها، التي سقطت في ميدان المواجهة، ويوجّه الإهانات والتهديدات لكل مؤسسات وقامات الأمم المتحدة والعدالة الدولية، ثم لا يشكل كل ذلك سبباً كافياً، لاتهام إسرائيل بالإرهاب، وارتكاب مجازر حرب إبادة جماعية.
قبل الحراك الأخير الجاري على جبهة المفاوضات من أجل إبرام صفقة تبادل، شنّت الإدارة الأميركية، حملة شعواء من الضغط على حركة حماس التي اتهمتها بالمسؤولية عن تعطيل المفاوضات، ولكنها لا تفعل شيئاً إزاء الممارسات والتصريحات العلنية الصادرة عن نتنياهو التي تضع العقبات أمام إنجاح المفاوضات.
بشهادة الأميركيين، والوسطاء العرب، فإنّ "حماس" أبدت مرونة كافية، لإنعاش التفاؤل، بإمكانية التوصل إلى اتفاق ولكن يمتنع الجميع عن تحميل نتنياهو وفريقه المسؤولية عن إمكانية أن تلحق المحاولات التفاوضية الجارية بسابقاتها.
الحلال بيّن والحرام بيّن، فلقد أبدت المقاومة كل الوقت استعدادها ورغبتها في وقف الحرب، وإنهاء أزمة الأسرى، وفي المقابل أبدت إسرائيل عزمها على مواصلة الحرب.
يعتقد نتنياهو وفريقه الحربي، أن المرونة التي أبدتها المقاومة إزاء التعاطي مع "ورقة بايدن" الإسرائيلية، مؤشّر على ضعفها وتراجعها تحت الضغط العسكري، وربما كانت الولايات المتحدة مقتنعة بذلك، ولهذا تصمت عمّا ترتكبه دولة الاحتلال من مجازر.
لا تفسّر هذه القناعة السبب في ارتكاب الجيش الإسرائيلي أفظع المجازر في مدارس الإيواء والمستشفيات، وآخرها في شرق خان يونس. حيث سقط أكثر من 30 شهيداً وعشرات الجرحى، ذلك أنّ هذه المجازر وهذا التصعيد، يعود سببه إلى أنّ إسرائيل لا ترغب في وقف الحرب، حتى لو أدّى إلى توقّفها مؤقّتاً.
والحال أنّ نتنياهو يدرك، أنّ التوصل إلى اتفاق، حتى لو كان سيؤدي إلى تهدئة مؤقّتة لبضعة أسابيع، قد يفتح على حكومته تناقضات وصراعات وضغوطاً داخلية وخارجية، تؤدّي إلى الإطاحة بائتلافه الحكومي.
لن يطول الأمر حتى يتبين الجميع بما في ذلك الإدارة الأميركية، بأنّ نتنياهو أمام خيارين فقط؛ إمّا استمرار الحرب، وإمّا سقوط ائتلافه الحكومي، الذي أخذت تنخره التناقضات بسبب تجنيد "الحريديم"، وانضمام ايتمار بن غفير لـ"مجلس الحرب"، وملفّ تعيين الحاخامات.
الهوّة تتسع بين المستوى السياسي، والمستوى العسكري والأمني على خلفية الموقف من صفقة التبادل، حيث تصاعدت مواقف مسؤولين أمنيين وعسكريين، للمطالبة بإنجاح صفقة التبادل حتى لو كان مقابل ثمن مؤلم.
يعلن نتنياهو أنّ المفاوضات قد تستغرق أكثر من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، وهي المدّة الزمنية المطلوبة، حتى يصل إلى واشنطن لإلقاء خطابه أمام الكونغرس، وإجراء اللقاء مع جو بايدن، وكل ذلك قبل التوصّل إلى اتفاق.
هذا يعني أنّه ليست هناك فرصة لاتفاق، فهو سيحصل على ما يريد تحقيقه من زيارته لواشنطن، ثم يدير ظهره للإدارة الأميركية. والسؤال هو: لماذا يعتقد البعض أنّ نتنياهو الذي قاوم الضغط الأميركي، وتحدّى الإدارة الأميركية، حين كان بايدن في وضع أقوى وأفضل حالاً مما هو عليه بعد المناظرة الرئاسية، لماذا يعتقد البعض أنّ نتنياهو سيتعامل إيجابياً، مع الموقف الأميركي السّاعي لإنجاح مفاوضات التبادل؟
ثلاثة أسابيع من المفاوضات، كفيلة بأنّ تبدّد التفاؤل الذي تبديه الإدارة الأميركية بعد المرونة التي أبدتها "حماس"، وخلالها لن تتوقف الإشارات العملية على أنّ الأمور محكومة لمنطق استمرار الحرب الإجرامية.
المقاومة الفلسطينية تبدي حنكة في التعامل مع هذا الملفّ، وهي بسبب إدراكها لما يسعى إليه نتنياهو، ستحاول تبرئة نفسها من المسؤولية عن فشل المفاوضات، طالما أنّ إسرائيل لا تدّخر وُسعاً في أن تحتضن الكرة الملتهبة.
ربما كان هذا التقدير هو الذي يقف خلف امتناع المقاومة عن وقف التفاوض، بسبب ما ترتكبه الدولة العبرية من مجازر بشعة، وإلى حين التوقّف عن ارتكاب المزيد منها.
والحال أنّ مؤشّرات التصعيد لمواصلة العدوان لا تتوقف عند ما يجري في القطاع فقط، فها هي دولة الاحتلال تصعّد من عمليات الاغتيال الصعبة، وتوسيع دائرة القصف في لبنان، ما يهدّد بانفجار الصراع على نحوٍ واسع وسيظلّ نتنياهو يسعى خلف ذلك، بما أنّه خياره الوحيد للنجاة.