لم يكن إطلاق سراح مدير مستشفى «الشفاء»، محمد أبو سلمية، وما أعقبه من عاصفة تبادل اتهامات بين الوزراء ورؤساء أجهزة الأمن الإسرائيلية، سوى صورة مصغّرة من الطريقة التي تدار بها الأمور في إسرائيل حالياً. وإذ أماطت هذه القضية اللثام عن جزء بسيط من الفوضى التي تنخر جسد مؤسسات الكيان، فقد أتت لتضاف إلى الأدلة الماثلة منذ بدء الحرب، على زيف «الوحدة» التي سعت حكومة بنيامين نتنياهو إلى تصديرها لجمهورها، من دون جدوى.
ذلك أن القيادة السياسية والأمنية - العسكرية الإسرائيلية كانت قد جعلت من «الشفاء» رمزاً على طريق تحقيق «النصر المطلق»، ولم تترك اتهاماً إلا ووجهته إلى المستشفى ومديره، مصوّرةً المعركة ضد أكبر مرفق طبي في القطاع كقاصمة لظهر «حماس»، على اعتبار أن قيادات الصف الأول في الذراع العسكرية للحركة «أنشأت تحته أنفاقاً ومقراً لقيادة الحرب». وفيما تحوّل اقتحام المستشفى، ثم حرقه وتدميره وإخراجه كلياً عن الخدمة، إلى واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في الحرب، فإن أياً من الإسرائيليين لم يكن ليعتقد أنه سيُفرج عن الرجل المتهَم بـ«مسؤوليته المباشرة، أو غير المباشرة، كمدير للمستشفى، عن مقتل أسرى إسرائيليين عولجوا هناك» وفقاً لمزاعم الاحتلال.لكن قبل أيام، وُقّع القرار بإطلاق سراح أبو سلمية، إضافة إلى عشرات آخرين.
وفور وصوله، أول من أمس، إلى مسقط رأسه الذي أحالته الطائرات الإسرائيلية ركاماً، خرج الرجل مجدداً ليعبر عن دعمه للمقاومة، ويسرد وقائع الظروف غير الآدمية التي يُحتجز فيها الأسرى الفلسطينيون، داعياً المقاومة إلى تحريرهم. ولم تمضِ دقائق على انتشار هذا المقطع المصوَّر، حتّى جُن جنون إسرائيل؛ إذ «اكتشفت» فجأة «الضرر» الذي تسببت فيه لنفسها. وبدلاً من أن يسارع المسؤولون إلى توضيح ما حدث، خصوصاً بعدما ثبت أن أبو سلمية بريء من كل التهم الموجهة إليه، وأن إطلاق سراحه جرى بطريقة رسمية وقانونية، راح هؤلاء يتقاذفون الاتهامات، متنصلين من المسؤولية التي ألقاها بعضهم على البعض الآخر.
ولم ينحصر هذا التراشق بـ«مجموعة الواتسآب الحكومية» التي تسرّبت محادثاتها إلى وسائل الإعلام، وما تلاها من أخذ ورد. إذ قرر وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، الخروج في مقابلة مع «القناة 14» (قناة المستوطنين)، ليتهم رئيس «الشاباك»، رونين بار، بأنه «هددني قبل أسبوع بأنه إذا لم نجد حلاً لقضية الاكتظاظ في السجون، فسيبدأ بإطلاق سراح الأسرى». وعندما سُئل بن غفير ما إن كان يقصد بكلامه أن بار أطلق سراح أبو سلمية عمداً في إطار تنفيذ «تهديده»، رد: «بكل تأكيد. فبهذه الطريقة يعمل جهاز أمننا. أردت أن يحيا الأسرى في ظروف الحد الأدنى من الإنسانية، ولكن أجهزتنا الأمنية لا تريد ذلك»، علماً أن «الشاباك» بضباطه وعناصره، وسجّاني مصلحة السجون، طبّقوا أكثر مما طلبه بن غفير، مخترعين صنوفاً جديدة للتعذيب، ربما لم يسبق لها مثيل في سجون «الغابة الكونية». وعلى إثر ذلك، اتهم «الشاباك»، بن غفير، بـ«قول أكاذيب لا أساس لها من الصحة».
ثمة بالفعل أزمة اكتظاظ، مردها محدودية أماكن الاحتجاز قياساً إلى عدد الأسرى الهائل
على أن بعض الوزراء اختاروا توجيه الاتهام إلى وزير الأمن، يوآف غالانت، الذي تنصل بدوره من المسؤولية، مسارعاً إلى اتهام بن غفير بها، على اعتبار أن ذلك يقع ضمن صلاحيات وزارته. أما رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فانتظر ساعتين فقط قبل أن يلقي باللوم على «المحكمة العليا» بـ«اعتبارها قررت إغلاق سديه تيمان»، ثم قال إنه «لم يكن يعلم»، فيما رمى «الشاباك» بدوره، بالمسؤولية على بن غفير، قبل أن يتضح أن رئيس الجهاز «لم يكن يعلم»، هو الآخر. ومن جهتها، نشرت مصلحة السجون التابعة لوزير «الأمن القومي»، ليل الإثنين - الثلاثاء، مقطعاً مصوراً من داخل الزنزانة التي احتجز فيها أبو سلمية، لتقول إنه «لا يوجد اكتظاظ في السجون».
على أنه في خضم كل ذلك، لم يقل أحد الحقيقة كما هي؛ إذ ثمة بالفعل أزمة اكتظاظ، مردها محدودية أماكن الاحتجاز قياساً إلى عدد الأسرى الهائل، على إثر اعتقال الاحتلال منذ بدء الحرب آلاف الفلسطينيين، الذين أضيفوا إلى آلاف أمثالهم قبل هجوم «طوفان الأقصى». وإذا كانت مصلحة السجون قد أرادت، بالفيديو المذكور، درء الضرر، فهي ظهّرت، من غير قصد، الظروف غير الإنسانية التي يُحتجز فيها الأسرى، ودلّلت على مسؤولية بن غفير عن معالجة الاكتظاظ بوصف هذا ضمن اختصاص وزارته، خصوصاً بعدما تقرر رسمياً حصر استخدام معتقل «سديه تيمان» السيئ الصيت، على إثر تحقيقات صحافية غربية حول المعتقل الذي يعذّب فيه جيش الاحتلال أسرى غزة، وبالتالي نقل جزء من الأسرى منه إلى بقية السجون. على أن «العليا» لم تتخذ قراراً بإغلاق المسلخ المذكور، كما ادعى نتنياهو، بل طالبت بإيجاد حل له، بفعل ضغوط دولية، واستئنافات تقدّمت بها جمعيات حقوقية طالبت بإعادة المنشأة إلى مكانها الأصلي، خصوصاً بعد استشهاد عدد من الفلسطينيين فيها تحت التعذيب، بما يشمل مدنيين وكوادر طبية خطفهم جيش الاحتلال من بيوتهم، وأثناء نزوحهم في الشوارع، ونقلهم كما تنقل البهائم بسيارات الشحن، بينما أجبرهم على التعري من ملابسهم.
ومع استمرار الجدل، ادعى مسؤولون في مكتب نتنياهو، أمس، أنه على إثر القرار بتفريغ «سديه تيمان»، تبيّن أن هناك حاجة إلى تحرير أسرى من السجون، فيما أوضح موقع «واينت» أن «مجلس الأمن القومي» طلب من الجيش و«الشاباك» قائمة بأسماء 120 أسيراً ليُطلق سراحهم، وبالتوازي طلب من «العليا» مهلة لإيجاد حل لقضية المعتقل. ولكن لأن القرار الأصلي يمنح مهلة حتّى نهاية الشهر الفائت، فقد تقرر إطلاق سراح 50 أسيراً، من دون أخذ موافقة المجلس المذكور أو المستوى السياسي، حول هويّات المطلق سراحهم. وما تقدم لا يدلّل على حجم الفوضى فقط، بل يدين إسرائيل لاعتقالها الفلسطينيين عن «جنب وطرف»، من أجل ادعاء «تحقيق إنجازات في تركيع مقاتلي حماس الذين ألقوا أسلحتهم واستسلموا» كما ادعى الجيش أكثر من مرّة، عبر نشر مقاطع فيديو تظهر فلسطينيين مجردين من ملابسهم، وهم يجثون أرضاً قبل نقلهم إلى المعتقل، فيما الجزء الأكبر من هؤلاء مدنيون، وبينهم أطفال.
ورغم أن «الشاباك» ألقى المسؤولية على بن غفير، باعتبار أنه حذّر مراراً من أن أزمة الاكتظاظ تدفع إلى إلغاء اعتقال فلسطينيين - وخصوصاً في الضفة -، تشتبه أجهزة الأمن الإسرائيلية في تخطيطهم لعمليات، فالواقع يقول إنه هو الجهاز المسؤول عن «أمن الإسرائيليين»، وبالتالي كيف يبرّر تنصله من تلك المهمة؟ أما الطامة الكبرى، فهي قوله إن أبو سلمية يستوفي شروط الحرية، لكونه، مقارنة مع أسرى آخرين، «يشكل خطراً أقل»؛ إذ إنه إذا كان كذلك، فلماذا احتُجز أساساً كلّ هذه المدّة؟ أما وسائل الإعلام الإسرائيلية، بوصفها آلة للدعاية العسكرية والأمنية، فاعتبرت إطلاق سراح أبو سلمية خطأ، كونه «تسبب في ضرر لصورة إسرائيل في العالم»، بعدما لم تترك جهداً يعتب عليها في صناعة كذبة «مستشفى الشفاء»، أي إن الاعتراض ليس على اعتقال فلسطيني بريء ومعاملته كحيوان، بل على انكشاف الكذبة فحسب.