بالنسبة إلى نتنياهو، كان يود لو أن غانتس بقي في حكومته، لأن الأميركيين يفضلون رؤيته فيها، فمن الصعب عليهم أن يكونوا ضد "دولة إسرائيل"، ومن السهل عليهم أن يكونوا ضد حكومة نتنياهو.
تطرح استقالة رئيس معسكر الدولة بني غانتس من حكومة الطوارئ الإسرائيلية أسئلة كبيرة حول مستقبل حكومة نتنياهو وكيفية إدارتها الحرب من الآن فصاعداً! وفقاً لكل المؤشرات، فإن استقالة غانتس ستجعله يسعى بجد، ومن موقعه في صفوف المعارضة، لمحاولة تقصير عمر هذه الحكومة وإسقاطها بالسرعة الممكنة، وإن بدت مهمة عسيرة في ظل استناد نتنياهو إلى ائتلاف كبير ومتجانس يصعب زعزعته.
وتبدو المهمة أصعب كذلك في ظل انعدام التجانس بين أقطاب المعارضة وضعفها في مواجهة نتنياهو، فبرغم المصلحة المشتركة لساعر وليبرمان وغانتس ولابيد في إسقاط الحكومة، لا يوجد موقف واحد جامع بين هذه الأطراف على كيفية إدارة الحرب وما بعدها.
علاوة على ذلك، فإن غانتس، حين كان عضواً في مجلس الحرب، عرقل محاولة انضمام ليبرمان وساعر إليه، وهما بالتأكيد لم ينسيا له هذا الأمر، لكن من المرجح، مع خروج حزب المعسكر الوطني من حكومة الائتلاف، أن قوة المعارضة ستزداد، وكذلك حركة الاحتجاج والتظاهرات التي تجري ضد الحكومة.
مع انسحاب رئيسي أركان سابقين من مجلس الحرب، يُترك نتنياهو من دون شخصيات مركزية مسؤولة وذات خبرة عسكرية قادرة على الموازنة بين اندفاعات ونزوات بن غفير وسموتريتش الداعية إلى احتلال غزة وإعادة استيطان غوش قطيف والبدء بحرب شاملة مع حزب الله في لبنان وحاجات "دولة إسرائيل" الاستراتيجة بعيداً عن صبيانية وطيش الرجلين.
ومع أن تأثير غانتس وأيزنكوت في مسار نتنياهو ظل منذ بداية تشكيل مجلس الحرب محدوداً، إلا أن نتنياهو وظف وجودهما إلى جانبه لجني ثقة الجمهور الإسرائيلي ومنحه شرعية وطنية سياسية لإدارة هذه الحرب. ولا بد من أن نتنياهو يتوق اليوم إلى هذا المنتدى "المحدود والسري" الذي منحه كذلك مساحة للتلاعب بشريكيه المعاندين بن غفير وسموترتش ومكّنه من استبعادهما عن المناقشات السرية واتخاذ القرارات الكبرى.
ولعل في تغريدة نتنياهو في منصة إكس، عقب استقالة غانتس، بأن "بابه مفتوح لأي حزب صهيوني يرغب في الصعود على قاربه" رسالة غَمَزَ فيها إلى ليبرمان وساعر للانضمام إلى حكومة الحرب علهما يعوّضان غياب غانتس وأيزنكوت، ويمنحانه الفرصة للحفاظ على مجلس الحرب، بحيث لا يضطر إلى ضمّ بن غفير وسموترتش إليه أو تفكيكه.
ومع ذلك، فإن المعطيات تشير إلى أن فرص تحقق ذلك ضئيلة جداً مع تأخر العرض واستمرار تصريحات الرجلين المنتقدة لنتنياهو وحكومته، لكن محاولات نتنياهو المتكررة تشهد خشيته من أن حكومته ستواجه تحدي الصمود والبقاء بعد غياب غانتس.
بالنسبة إلى نتنياهو، كان يود لو أن غانتس بقي في حكومته، لأن الأميركيين يفضلون رؤيته فيها، فمن الصعب عليهم أن يكونوا ضد "دولة إسرائيل"، ومن السهل عليهم أن يكونوا ضد حكومة نتنياهو، وما دام غانتس وأيزنكوت هناك فإنهما سيخففان من انتقاد الأميركيين لحكومة نتنياهو.
هذه الحقائق تغذي انتقادات معارضي غانتس ومنتقديه الذي يرون أن الاستقالة جاءت متأخرة جداً لاعتبار شخصية وحزبية بحتة بعد تراجع رصيده في الرأي الإسرائيلي العام وفق استطلاعات الرأي.
لقد تأخر غانتس كثيراً حتى استوعب أنه لم يفعل شيئاً ذا قيمة أمام نتنياهو ويمينه، وهو على الأرجح يدرك الآن أن خروجه لن يقود بالضرورة إلى إحداث تأثير "أحجار الدومينو" في حكومة نتنياهو، فضلاً عن أنه لم يتقن استغلال وجوده في حكومة الطوارئ وارتفاع رصيده الشعبي في حينه لخلق بديل سياسي لنتنياهو أو لتجنيد متمردين في الليكود لدق إسفين في ائتلاف نتنياهو.
لقد انتظر كثيرون هذه الاستقالة المتأخرة أشهراً طويلة، على أمل أن تُرفع الشرعية "السياسية والوطنية والأخلاقية" عن حكومة ننتياهو، وأن تمنح زخماً أكبر لاستئناف التظاهرات الحاشدة ضد الحكومة.
ومع أن خطاب غانتس الذي أعلن فيه انسحابه تضمّن انتقادات واضحة لـنتنياهو، إلا أنه لم يكن حاداً أو عدوانياً أو مثيراً للتحدي بما يكفي ليعيد إنتاج طاقات جديدة شعبية ورسمية تكسر سقوف الاحتجاجات السابقة "الخجولة" وتحوّلها إلى مدّ جارف يحاصر نتنياهو ويدفعه، على الأقل، لإسقاط سردية "النصر التام" بما يسمح بتحقيق صفقة تبادل ووقف الحرب الدامية المفتوحة على غزة.
وفي المقلب الأخر من المشهد السياسي، فإن انسحاب معسكر الدولة لن يؤثر في الأغلبية البرلمانية القوية والمتجانسة التي تسمح للحكومة بمواصلة عملها من دون تشويش، وهو ما تأكد بعد تمرير قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية بالقراءة الأولى في كنيست الاحتلال.
ورغم أن أياً من أحزاب الحكومة ليس لديه مصلحة في تفكيكها، فمن الممكن أن تؤدي جملة التطورات التي تعصف بالداخل الإسرائيلي حول قانون التجنيد وغيره إلى هز الحكومة، وربما تؤدي مع تطور الانتقادات والاحتجاجات حوله واتساعها في النهاية إلى حلها.
ولا ننسى أن المعارضة وقيادة حركة الاحتجاج تعوّل كثيراً على قانون إعفاء الحريديم من التجنيد ليتولى مهمة تأجيج الداخل الإسرائيلي، لتصبح الحكومة في مواجهة أكبر تهديد لمستقبلها. ربما نجح نتنياهو في تمرير هذا القانون في القراءة الأولى، لكنه بالتأكيد سيجد، مع تزايد الضغوط والاحتجاجت العامة، وحتى من داخل الليكود، صعوبة كبيرة في تمريره في القراءتين الثانية والثالية، وسيبدأ تخبطه أمام شركائه الحريديم.
إن انسحاب غانتس ومعسكر الدولة من الحكومة يعيد النظام السياسي الإسرائيلي إلى واقع ما قبل 7 أكتوبر 2023، الذي تسابقت فيه حكومة اليمين المتشدد نحو هاوية الانقسام الداخلي والعزلة والمقاطعة الدولية.
لقد وضع نتنياهو قاعدة لنفسه منذ بداية الحرب؛ وهي ألا يتم تفكيك حكومته، ولو بثمن الحرب الداخلية الطاحنة التي يؤجج نارها وهو يدير الظهر لمطالبات شعبية ورسمية واسعة، ليس في قضية استعادة الأسرى فحسب أو في وقف الحرب التي بات كثيرون يرونها عبثية، بل في ضرورة تقاسم الأعباء وفرض التجنيد على الحريديم مع استمرار الحرب وسقوط العديد من الجنود بين قتلى وجرحى.
أمام مشهد الصراع الداخلي الذي يعصف بالمجتمع الإسرائيلي، فإن خيارات نتنياهو بعد استقالة غانتس تسير في مسارات ثلاثة متناقضة؛ أولها، والذي يبدو أن نتنياهو يتبناه، هو استمرار الاتكاء على اليمين المتطرف والمضي قدماً كأن استقالة غانتس لم تحدث، معتمداً على الأحزاب الدينية الحريدية والدينية الصهيونية التي تمنحه الأغلبية في الكنيست (64 عضو برلمان)، ما سيزيد عزلة حكومته داخلياً ودولياً، ويضاعف الاحتقان مع الولايات المتحدة، والأهم أن هذا المسار سيضعه تحت رحمة بن غفير وسموترتش اللذين يطالبان بتصعيد القتال في غزة ولبنان، ويهددان بإسقاط الحكومة إذا ما قبلت بوقف إطلاق النار.
أما المسار الثاني الأقل ترجيحاً، فهو القفز من قارب اليمين المتطرف والقبول باقتراح لبيد زعيم المعارضة بمنح حكومته شبكة أمان تحميه من المتطرفين شرط موافقته على الصفقة. وأما المسار الثالث والأخير، فهو الذهاب إلى حل الكنيست والرهان على الانتخابات للعودة إلى سدة الحكم، وخصوصاً مع ارتفاع رصيده وفق استطلاعات الرأي، إذ يراهن نتنياهو على أن استدامة الحرب ستحوّله من مُدان ومسؤول عن الفشل إلى بطل قومي استطاع قيادة سفينة "إسرائيل" إلى بر الأمان رغم ما تلاطمها من أمواج في خضم الحرب، لكنها مقامرة غير محسوبة، وخصوصاً أن الحرب لم تنتهِ بعد ولم تحقق أياً من أهدافها، وعلى رأسها استعادة الأسرى.
من المرجح أن تؤدي استقالة غانتس وآيزنكوت إلى حل مجلس الحرب، فنتنياهو لن يقبل، لاعتبارات كثيرة، ضم سموتريش وبن غفير إليه، وسيدير الحرب في إطار فريق ضيق يضم غالانت وديرمر ودرعي مع رؤساء الأجهزة الأمنية، لكن هذه الاستقالة لن تحل الحكومة الموسعة التي تستند إلى أغلبية برلمانية قوية ومتجانسة من 64 عضو كنيست، ليس لأنهم متفقون على كل شيء يخص هذه الحرب تقريباً، بل لأنه، لا أحد منهم، بما في ذلك بن غفير وسموترتش واليهود المتشددون "الحريديم" الغاضبون من محاولة فرض التجنيد العسكري عليهم بالقوة، لديه ما يبحث عنه خارج الحكومة، فهي فرصة لن تتكرر، وبالتأكيد لا يودون المساهمة في إضاعتها.