Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

الضفّة بمنظار نتنياهو: لا إسرائيلَ مِن دونها

فلسطين اليوم//وكالات - لبنان

في الشهر التاسع للحرب الإسرائيلية على غزّة، يصبح جليّاً أنّ حكومة بنيامين نتنياهو تريد التستّر بعمليّة السابع من أكتوبر لارتكاب إبادةٍ جماعية تتيح تصفيةَ المشروع الوطني الفلسطيني. لذلك، على الرغم مِن كون قطاع غزة هو مركز القتال، إلا أنّ الضفّة الغربية هي «الجائزة الكبرى». في وقتٍ يراهن فيه بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية في غزّة على أن تفضي نتيجة الحرب إلى هزيمة «حماس» للعودة إلى حكم القطاع، فإنّ رهان نتنياهو أن يخرج مِن غزّة منتصراً ليدخل الضفّة مفكّكاً حقّ وأمل الفلسطينيين في دولتهم بنزع كلّ مصدرٍ محتمل لها، عسكري وسياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. مع العلم، أنّ الضفّة في صلب الادّعاءات التوراتية، تحت مسمّى «يهودا والسامرة»، وقد أشار المؤرّخ الإسرائيلي المعارض للصهيونية إيلان بابيه إلى أنّ ضعف الادّعاءات اليهودية في غزّة أحبط استقدام أعدادٍ كبيرة مِن المستوطنين إليها.
تكشف قراءة كتاب نتنياهو «مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم» (ألّفه عام 1992) أنّ غزّة تمثّل في الأصل خطراً سياسياً فيما الضفّة خطرٌ استراتيجي، ويربط ذلك بعناصر أمنيّة تتّصل بالجغرافيا (منها الأمن المائي) والديموغرافيا. يرى نتنياهو، كما كثيرين مِن الصهاينة، أنّ دولةً إسرائيلية وفق حدود 1967 هي غير قابلةٍ للدفاع ومصيرُها الزوال، وبالتحديد في حالتي الضفّة والجولان المحتلّ (استثنى سيناء بسبب طبيعتها الصحراوية الشاسعة التي تمنع حصول مباغتةٍ مصرية). يدعم نتنياهو مقولَته بأنه لو حصلت مفاجأة 1973 وفق حدود ما قبل 1967 لكانت المعارك انتقلت إلى قلب المراكز السكّانية الإسرائيلية خلال ساعات، فهي حدودٌ هشّة أمام المباغتة واستراتيجيات الاستنزاف. هذا ما يسمّيه تشارلز فريليش (نائب مستشار الأمني القومي الإسرائيلي السابق) «الكابوس الجغرافي» المتمثّل في غياب الحدود الطبيعية مع الدول المجاورة وفي الشكل الطولي للكيان بحيث تحوّل كلّه إلى جبهةٍ هشّة لا عمقَ لها مع اكتظاظ السكّان والأصول الاستراتيجية في نقاطٍ محدّدة بين عسقلان وحيفا.
يربط نتنياهو موقفَه الأمني مِن الضفّة بطبيعتها الجغرافية الغنيّة بالهضاب والجبال التي تشرف على المراكز الحيوية الساحلية في الكيان. وهذا يتيح لِمَن يسيطر عليها شنّ هجماتٍ أو إقامة منشآتٍ للمراقبة والتحذير المسبق ونقل هذه المعلومات إلى أعداء الكيان، كما أنها تتيح نظرياً لجيش معادٍ، سواء فلسطيني أو آتٍ مِن الأردن (وخلفه العراق)، الوصول إلى البحر (10 أميال بين الضفة والبحر عند نتانيا) بسرعةٍ خاطفة وقطع الكيان إلى قسمين.
ويعبّر نتنياهو عن خشيته مِن دولةٍ فلسطينية تشمل الضفّة كونه في حال وقوع حربٍ متعدّدة الجبهات سينشغل الجيش الإسرائيلي في تطويق الضفّة، ما يقلّل عدد القوّات النظامية المرسلة إلى الجبهات لتخوض قتالاً تأخيريّاً بانتظار انضمام وحدات الاحتياط وهكذا تتضاعف أزمة العمق الاستراتيجي. ويؤكّد نتنياهو هذه الحجج بالإحالة إلى طلب وزير الدفاع الأميركي مِن مرؤوسيه، بعد أيّامٍ مِن حرب 1967، رسمَ خريطةٍ لإسرائيل وفق حدود الحدّ الأدنى الضرورية لتكون قادرةً على الدفاع عن نفسها بغضّ النظر عن العوامل السياسية، فنتجت خريطةٌ تؤيّد أن تحتفظ إسرائيل بـ 4/5 مِن الأراضي (من دون سيناء) تشمل أغلب الضفّة وكلّ مرتفعات الجولان.
لا يرى نتنياهو أملاً في بقاء الكيان بدون الضفّة، ويجادل أنّ الفلسطينيين يمثّلون أغلبيةً في الأردن ويمكن لهم أن يحوزوا هناك حقوقاً سياديّة (كشفَ كتابُ دونالد ترامب أخيراً أنه عرض على ملك الأردن ضمّ الضفّة الغربية، فشعر الأخير كأنه يصاب بأزمةٍ قلبية بحسب قوله). أقصى ما يتحدّث عنه نتنياهو هو صلاحياتٌ مدنيّة للفلسطينيين لإدارة حياتهم ولكن ليس سلطةً سياسية تهدّد أمْن وبقاء إسرائيل. فلا يمكن الفصل بيْن السيطرة العسكرية عن السيادة السياسية، كلتاهما يجب أن تبقيا لدى إسرائيل. ويردّ نتنياهو على مَن يقبلون الهواجس الأمنية الإسرائيلية ويقترحون بناءً عليها أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح بالقول إنه لا يمكن عملياً ضبط تهريب الأسلحة الصغيرة، إنه وعدٌ غير مستدامٍ سياسياً حتى في نطاقاتٍ أصغر مِن دولة، ولا يمكن الوثوق بالفلسطينيين الذين يعملون وفق منطق القضم، والسلاح النووي الإسرائيلي لا يمثّل ضمانةً وجودية في حالة القتال داخل الكيان.

إنّ مصير الضفّة يتقرّر في غزّة الآن، وهذا ما على قوى الضفّة أن تتيقّنه وتُدْخله في عملية صناعة قراراتها


بناءً على هذه الرؤية الراسخة، يحاول نتنياهو في السنوات الأخيرة تسريع عمليات الضمّ في الضفّة. وشمل ذلك الاستفادة القصوى مِن وجود ترامب في البيت الأبيض لنيل اعترافٍ أميركي بالقدس عاصمةً للكيان وضمّ أجزاء مِن الضفة وتقويض فكرة الدولة الفلسطينية، ثمّ شرع نتنياهو وحلفاؤه في تسريع عمليات التهويد في القدس وفرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى، ومحاولة قطع الضفّة الغربية إلى شماليةٍ وجنوبيةٍ عند الخان الأحمر، ثم مع الحكومة الحالية تمّ فرض سلطةٍ مدنيّة للاحتلال على الضفّة. ومنذ السابع من أكتوبر تجري عملياتٌ ممنهجة للتهجير والاستيلاء على الأراضي وتقطيع الأوصال وفرض وقائع غير قابلة للتراجع عنها.
يطمح نتنياهو لاستثمار الحرب في غزة ونتائجها في المقام الأوّل داخل الضفّة قبل أيّ جبهةٍ أخرى. فمِن خلال «الانتصار المطلق» المأمول، يريد نتنياهو تحطيم الأمل لدى الفلسطييين في المقاومة والدولة، وحرمان الضفّة مِن جبهة المساندة الغزّاوية، وتخصيصَ جهدٍ أمني وعسكري أكبر للضفّة لتصفية حالة المقاومة فيها، والاستمرار في فرض قيودٍ اقتصادية شديدة والتنكيل بالسكّان وتكثيف عمليات الاستيطان والطرد بما قد يحفّز موجات هجرةٍ فلسطينية، مِن ناحية، وينهي المطلب الفلسطيني بدولة وفق حدود 67 ويثبّت مقولة وجود إدارةٍ محلية فلسطينية في بلداتٍ ومدن معزولة باعتباره الحل النهائي، من ناحية ثانية.
وفي خضمّ هذه المحاولة، لا تتراجع خطورة التهديد الذي تمثّله الضفّة في العقل الصهيوني. فمنذ عام 1992 كان نتنياهو ينظّر لضمّ الضفّة مِن باب توسعة العمق الجغرافي بسبب ظهور قدراتٍ صاروخية قادرة على ضرب مراكز المدن ونقاط تحشيد الاحتياط والمنشآت العسكرية الاستراتيجية، فكيف الحال الآن؟ كما تزايدت المخاوف الإسرائيلية مِن واقع الضفّة في ظلّ الجهود المتعاظمة لمحور المقاومة لتمكين الفلسطينيين من المقدّرات العسكرية عبر عمليات تهريبٍ نشطة. وكل ذلك يجري في ظل تراجع دور السلطة الفلسطينية ونفوذ أجهزتها الأمنيّة لصالح مجموعات المقاومة المحلّية التي كشفت عن قدرةٍ عالية على المناورة والتكيّف لشنّ معارك استنزافٍ طويلة.
وبمرور الوقت، تتزايد الشكوك في قدرة النظام الأردني على البقاء المستقرّ، في حين تنمو تهديدات المقاومة في جبهتي لبنان والعراق التي لطالما ربطتها السياسات الأمنيّة الإسرائيلية بالضفّة الغربية. ويصبح الصهاينة أكثر حسّاسيةً للاستنزاف في الضفّة بفعل التحدّيات الصاعدة في الجبهات الأخرى، ففي عام 2007 كان هناك 4 ملايين عربي يعيشون بشكلٍ لصيقٍ لحدود الكيان وهذا الرقم سيتضاعف عام 2027 بل ويصل إلى 20 مليون عربي وفق عمق 50 كلم. وبحسب فريليش، أصبحت المستوطنات في الضفّة والجولان عبئاً يلزم الدفاع عنه بدل أن تكون أصولاً دفاعية بفعل القوّة النارية لقوىً مثل حزب الله و«حماس».
إنّ مصير الضفّة يتقرّر في غزّة الآن، وهذا ما على قوى الضفّة أن تتيقّنه وتُدْخله في عملية صناعة قراراتها. خيار حكومة نتنياهو هو الإبادة في غزّة ثمّ تصفية المشروع الفلسطيني في الضفّة. اعترف جون ميرشايمر أخيراً (15 أيار 2024) أنه أدرك في الأشهر الأخيرة أنّ نتنياهو وحلفاءَه يعلمون أنّ مشروع الفصل العنصري غير مستدامٍ كما كان حالُ جنوب أفريقيا العنصرية التي اندثرت رغم كونها قوّة نووية أيضاً، ولذا حربهم في غزة تهدف للتطهير العرقي والإبادة ولذلك هناك رفضٌ لطرح خطّةٍ لليوم التالي. وهو ما يوافق بابيه عليه؛ إذ يرى أنّ الأجيال الحالية مِن الإسرائيليين أسوأ مِن الجيل الأوّل نظراً إلى ما مرّت به مِن عمليات تنشئةٍ اجتماعية في الجيش والإعلام والتعليم وهي ترى أمامها فرصةً تاريخية لإبادة الفلسطينيين. ويخلص الكاتبان، كلٌّ مِن خلفيّته وتخصّصه، إلى نتيجةٍ متشابهة: «المستقبل البعيد لإسرائيل محلّ تساؤلٍ لعدّة أسباب» (ميرشايمر)، و«المشروع الصهيوني يدخل مرحلته الأخيرة» (بابيه).
ولذلك، علينا أن نتوقّع إسرائيل أكثر تهوّراً وخطورةً في السنوات المقبلة، وأن نوقن أنه كما يُرسم في غزة مستقبل الضفّة والقدس، فإنه في فلسطين والصراع مع كيان العدوّ يُرسم مستقبل المنطقة في لحظةٍ دولية فارقة. قبل مئة عام تقريباً، وفي لحظةٍ دولية فارقة أيضاً، كنّا خرائطَ على الطاولة، أمّا الآن فلدينا فرصةٌ لفرض شراكتنا وبيدنا ثمنُ ذلك.
* أستاذ جامعي

المصدر: جريدة الأخبار