يجري طرح عدّة تحديّات جديدة، ينبغي أخذها في الاعتبار، أبرزها في مجال الحرب السيبرانية، ومجال تكنولوجيا علوم الفضاء، وازدياد أهمية الساحة البحرية.
يأخُذ الجدل بشأن فشل عقيدة "إسرائيل" الأمنية القائمة على أربعة أسس، الردع، والإنذار المبكّر، والحسم، والدفاع، مدّاً كبيراً في أثناء الحرب الحاليّة على قطاع غزّة، ويعطي انطباعاً عامّاً بأنه سبق غيرَه من الجدالات بشؤون أخرى في مجال الاستنتاجات. وإذا ما توقّفنا أمام كل واحدٍ من هذه الأسس الأربعة بالإمكان العثور على عدة تسويغاتٍ تثبت هذا الفشل على أكثر من صعيد واتجاه. وهو ما يقرّ به باحثون وخبراء في الشؤون الأمنيّة.
ربما من المهم التنويه إلى أن الخبراء المتخصّصين في موضوع عقيدة الأمن الإسرائيلية يشيرون، منذ أكثر من عقد، إلى أن العولمة، والثورات التكنولوجية في مجالات الاتصالات، والسايبر، والفضاء، والتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وتبدّل طبيعة الحروب، والمستجدّات في المجتمع الإسرائيلي، تستدعي إعادة درس هذه العقيدة الأمنية وملاءمتها ظروف الواقع الديناميكي. وفي هذا الإطار، يجري طرح عدّة تحديّات جديدة، ينبغي أخذها في الاعتبار، أبرزها في مجال الحرب السيبرانية، ومجال تكنولوجيا علوم الفضاء، وازدياد أهمية الساحة البحرية.
وفيما يتعلق بالتحدّي الأخير، الذي طُرح بقوة خلال الحرب الحالية، سبق لدراسة إسرائيلية نُشرت قبل عشرة أعوام أن لفتت إلى ضرورة الاعتراف بالأهمية الاستراتيجية للساحة البحرية بنداً أساسياً في عقيدة إسرائيل الأمنية، نظراً إلى العوامل التالية: أولا، ما يقارب 80% من سكّان إسرائيل يقطنون على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط. ثانياً، غالبية المرافق الحيوية لإسرائيل (محطّات الطاقة، ومعامل تكرير النفط، ومعامل تحلية المياه، والمرافئ، وقواعد عسكرية وغيرها) مركّزة بكثافة على امتداد الساحل. ثالثاً، البحر الأبيض المتوسط هو شريان الحياة الذي يربط إسرائيل بأوروبا وأميركا، في حين أن البحر الأحمر يربطها بأفريقيا وآسيا. وما يقارب 97% من استيراد البضائع وتصديرها من إسرائيل وإليها يتم عن طريق الشحن البحري عبر الموانئ.
ووفقًا لهذه الدراسة، أضيفت في الأعوام الأخيرة عناصر جديدة تقتضي إعادة درس مكانة الساحة البحرية في عقيدة إسرائيل الأمنية، منها: اكتشافات مكامن الغاز الطبيعي قبالة شواطئ "إسرائيل" وترسيم حدود "المياه الاقتصادية" وضرورة حماية هذه الموارد الإستراتيجية؛ تزايد أهمية البحر الأحمر بصفته ممرّاً تجاريًا إلى القوى الكبرى الآسيوية (الصين، الهند، اليابان)؛ خطّة التطوير واسعة النطاق لمنطقة إيلات (مرفأ جديد، ومطار جديد، ومشروع "سكة حديد إيلات"، ومشروع "قناة البحرين"). كما يمثل البحر الأحمر بالنسبة إلى "إسرائيل" ساحة صراع ضد ما يوصَف بأنه "الاختراق الاستراتيجي الإيراني لهذا الحيّز"، وضد محاولات إيران نقل وسائل قتالية إلى الفلسطينيين عبر هذه المنطقة، وضد تهديداتٍ آتيةٍ من اليمن والقرن الأفريقي.
ومن آخر الاجتهادات المتعلقة بمطلب إعادة صوغ عقيدة الأمن الإسرائيلية ما كتبه رئيس مجال الأبحاث في مركز دادو للدراسات العسكرية متعدّدة الاختصاصات، وهو هيئة في شعبة العمليات في هيئة الأركان العامة للجيش تهدف إلى تعزيز التفكير العملياتي وعمليات استخلاص الدروس في الجيش، في بداية العام الحالي، ودعا فيه إلى استبدال الأسس الأربعة التي المعتمدة بأربعة أسس جديدة: طول نفَس قومي وعسكري لمواجهات مستمرّة؛ مرونة تتيح إمكان الانتعاش السريع من المفاجآت في أثناء القتال؛ إثبات أفضلية نسبية في مواجهة تهديدات جديدة طوّرها الخصم ووضع تحدّيات أمام هذا الخصم بواسطة تطوير قدراتٍ لم يستعد لها؛ الردع بواسطة إثبات طول النفَس، والانتعاش من المفاجآت، وإثبات التفوّق النسبي في مقابل التغيرات التي طرأت على الخصم، أي الردع بواسطة المركبات الثلاثة السابقة.
غير أن هذا المسؤول الأمني يقرّ بأن هذه الأسس الجديدة المقترحة ليست قابلة للتقدير أو للقياس، في حين أن الأسس السابقة كانت قابلة أكثر لهذا الأمر. ولذا فإن الناجز هو التأكد من فشلها كلها بتأثير عملية طوفان الأقصى التي ستسجل في كتب التاريخ بأنها التجربة الأكثر تقويضًا لعقيدة الأمن الإسرائيلية التي صيغت في مطلع خمسينيات القرن العشرين الفائت واعتمدت منذ ذلك الحين.