أحد خيارات العدو هو الذهاب في اتجاه عملية عسكرية محدودة في لبنان، لا تتجاوز المناورة البرية فيها حدود القرى والبلدات اللبنانية الواقعة قرب الحدود، في محاولة لوقف الصواريخ التي يعتقد العدو انها تُطلق منها.
ما زلت أذكر جيدا الخطاب الأول الذي ألقاه سماحة السيد حسن نصر الله، بتاريخ الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، للحديث عن موقف الحزب اللبناني بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. في ذلك الوقت تحلّق كل أهالي القطاع، ومعهم معظم سكّان العالم حول شاشات التلفاز، مترقّبين القول الفصل من زعيم حزب الله، والذي انتظروه منذ بدء العدوان على القطاع.
قبل الخطاب بأكثر من سبعة وعشرين يوماً كان الحزب اللبناني انخرط بالفعل في معركة الدفاع عن قطاع غزة، إذ دشّن في اليوم الثاني من تلك الحرب جبهته القتالية المساندة والداعمة للمقاومة الفلسطينية في القطاع، إلا أن الجميع كان ينتظر توصيفاً دقيقاً وواضحاً لتلك الجبهة من جانب الأمين العام لواحدة من أقوى المنظمات المسلحة غير النظامية في العالم، والتي يُنظر إليها إسرائيلياً وأميركيا بانها تمثّل العدو القريب الأكثر خطورة على دولة الكيان، إضافة لكونها واحدة من اهم أذرع محور المقاومة في الإقليم، والتي يُنتظر منها القيام بدور حاسم وفعّال في أي مواجهة واسعة قد تنفجر في المنطقة، على وقع الاعتداءات الصهيونية المستمرة ضد عدد من جبهات محور المقاومة.
في خطاب السيد نصر الله، المُشار إليه آنفاً، ركّز سماحته على عدد من النقاط، ضمنها الإشارة الواضحة إلى أن جبهة لبنان هي جبهة مساندة لقطاع غزة، وأن الحزب لن يسمح بانتصار "إسرائيل" وهزيمة المقاومة، وتحديداً حركة حماس، بالإضافة إلى شرح وافٍ ومفصّل لوجهة نظر الحزب بشأن ما جرى صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر في معركة طوفان الأقصى.
إلى جانب ذلك، وضمن سياسة الغموض البنّاء التي يستخدمها نصر الله في كثير من خطاباته، أبقى كل الاحتمالات والخيارات مفتوحة، إذ وصف ما يحدث عند الحدود الجنوبية بـانه أمر غير مسبوق، وأكّد أنه لن يتمّ الاكتفاء به بحسب ما تقتضيه تطورات المعركة.
هذا الخطاب الشهير أثار جدلاً واسعاً في ذلك الحين، بين من رأى فيه أنه خطاب عقلاني ومتوازن، يحاول من خلاله حزب الله مساندة المقاومة في غزة، مع عدم إشعال حرب مفتوحة تأتي على الأخضر واليابس في لبنان، الذي يعاني مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية لا تُعد ولا تُحصى، وبين من رأى أنه خطاب دون المستوى المأمول والمُتوقع، وأنه يمنح العدو الصهيوني مساحة لفعل ما يريد من دون الخوف من فتح جبهات أخرى في المنطقة، وأنه كان يتوجب على حزب الله، بحسب وجهة نظر هذا الفريق، إعلان الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة جبهةَ حرب متكاملة الأركان، تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة، بحيث تنشغل "إسرائيل" بها عن جبهة غزة، أو على أقل تقدير تخفّف عدوانها الوحشي الذي تستخدم فيه كل ترسانتها من الأسلحة، بما فيها المحرّمة دولياً.
بغضّ النظر عن تلك الآراء، التي تحوّلت في بعض الأوقات إلى مناوشات ومزايدات إعلامية، ولاسيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الذي استغله البعض لتوجيه سهام النقد إلى حزب الله، ومن خلفه كل أطراف محور المقاومة، فإن المتتبع لطريقة حزب الله في العمل العسكري في هذه المعركة يمكن له أن يكتشف أن ما قام به الحزب، وما زال، والذي يتوافق تماماً مع خطاب السيد نصر الله في ذلك الوقت، ومع الخطابات التي تلت ذلك، هو عبارة عن تكتيك عسكري عصري بامتياز، يحتوي على مرونة عملياتية عالية المستوى، ويحافظ على النسق القتالي، سواء المرتفع أو المنخفض، بحسب ما تقتضيه الحاجة، وبحسب الأهداف المُراد تحقيقها من وراء هذا العمل.
في علوم الحرب، يمكن لنا أن نرى كثيراً من المبادئ الرئيسة، ضمنها الاستراتيجية، وما تشمله من تخطيط استراتيجي، إلى جانب التكتيك، الذي يشمل التخطيط التكتيكي، إذ يتم تعريف الاستراتيجية بأنها فنّ تنظيم الجيوش وتنسيق القوى ووضع الخطط العسكرية في المعركة، بينما يعرّف التكتيك بأنه فنّ القيادة والاستخدام للقوات والسلاح في المعركة، ويُعَدّ الوسيلة التي تُستخدم لإنزال الهزيمة بالعدو.
وفي الغالب يكون التكتيك جزءاً من استراتيجية شاملة، إلا أن الاستراتيجية، في بعض الأحيان، يمكن أن تتضمّن أكثر من تكتيك واحد.
ما قام به حزب الله، منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر من العام المنصرم، يتوافق تماماً مع التعريفات الثابتة لعلم التكتيك العسكري، والذي يعتمد بصورة أساسية على تنوّع التكتيكات القتالية بصورة كبيرة، إذ إن من غير الممكن في عالم الحروب، ولاسيما الحديثة منها، تحديد مجموعة من الخطط العملانية والتزامها في أثناء المعركة، بل يتم وضع تلك الخطط بناءً على تطور أحداث المعركة، بحيث يبقى الباب مفتوحاً للابتكار والخروج عن المألوف، نظراً إلى أهمية عنصر المفاجأة وزرع الشك والإرباك في صفوف العدو وتحصيناته، وتركه في حالة من الذهول.
وحتى لا نُبحر كثيراً في العلوم العسكرية، التي قد تبدو معقّدة بالنسبة إلى البعض، دعونا نعُدْ إلى فكرتنا الأساسية، والتي نسعى من ورائها لقراءة المشهد العسكري في الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، والذي يشهد تطوراً لافتاً خلال الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً من حيث رفع حزب الله، ضمن ما أشرنا إليه سابقاً من تغيير للتكتيكات، نَسَقَ عملياتِه الهجومية، والتي عدّها العدو الصهيوني تجاوزاً للخطوط الحمر التي يتم العمل بها في تلك الجبهة منذ بدء المعركة، والتي كانت، بحسب كل الخبراء والمتابعين، تحافظ حتى وقت قريب على قواعد اشتباك ثابتة، ساهمت إلى حد بعيد في تخفيض سقف التوقّعات بشأن إمكان اشتعال صراع عسكري كبير في المنطقة، يمكن ان تنتج منه تداعيات جيواستراتيجية تترك تداعيات مؤثرة في مستقبل الإقليم.
قبل عدة أسابيع، كان حزب الله يكتفي بالرد على توسيع العدو عمليات القصف الجوي التي استهدفت مناطق تبعد أكثر من 100 كلم عن الحدود اللبنانية الفلسطينية، ولاسيما في الهرمل وبعلبك، بإطلاق رشقات صاروخية مكثّفة، استهدفت كريات شمونة والجليل والجولان المحتل وقاعدة ميرون للمراقبة الجوية، إلى جانب استهداف عشرات المواقع العسكرية الصهيونية بالصواريخ الموجهة.
هذه الحال تباينت خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، ولاسيما بعد مهاجمة جيش الاحتلال مدينة رفح، أقصى جنوبي القطاع المحاصر، والتي ارتكب فيها الاحتلال جرائم بحق النازحين الفلسطينيين، نتج منها مئات الشهداء والمصابين، إلى جانب احتلال معبر رفح، شريان الحياة الوحيد بين القطاع المنكوب والعالم الخارجي، وهو الأمر الذي أدى إلى توقف شبه كامل للمساعدات الإنسانية التي تدخل من خلاله، وهو ما أعاد شبح المجاعة من جديد إلى كل مناطق القطاع، ولاسيما الشمالية منها، والتي تحظى بالقسم الأوفر من عمليات الحصار والتجويع والإفقار.
هذا التباين في طريقة عمل حزب الله، أو في التكتيك القتالي الذي يستخدمه الحزب، أدى إلى ارتفاع في نسبة الخسائر في صفوف العدو، سواءٌ على صعيد الإمكانات العسكرية من أجهزة مراقبة وتجسّس، وبطاريات القبة الحديدية، أو فيما يتعلّق بالجنود والضباط الذين يوجدون في عشرات القواعد العسكرية المنتشرة على مساحة واسعة من الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة.
ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى تمكّن قوات الدفاع الجوي في الحزب من إسقاط مزيد من الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، وخصوصاً طائرة "هيرمس 900"، التي تُعرف في سلاح الجو الإسرائيلي بـ "كوخاف" (النجم)، وتُعَدّ من أكفأ الطائرات غير المأهولة لدى جيش الاحتلال، إذ تستطيع التحليق في الجو مدة 40 ساعة متواصلة، وتحمل 4 صواريخ جو - أرض من طراز "أيه جي أم- 114 هيلفاير"، أو صواريخ جو - جو من طراز "أيه آي أم-92 ستينغر" المستخدمة في اعتراض الطائرات والمسيّرات، كما أنها قادرة على حمل قنابل موجهة بالليزر من نوع "جي بي يو-12 فايفواي"، أو قنابل "جيدام"، التي تُستخدم في استهداف المواقع وشن هجمات وتنفيذ اشتباكات واغتيالات وعمليات نوعية.
في مقابل هذا النجاح في استهداف طائرات العدو المسيّرة، نجح الحزب اللبناني في تكثيف ضرباته، عبر استخدام السلاح نفسه، إذ قام باستخدام مروحة واسعة من منظومة الطيران المسيّر لديه لضرب أهداف إسرائيلية حسّاسة، في خطوة فاجأت جيش الاحتلال، وأظهرته عاجزاً عن التصدّي لتلك الطائرات، على الرغم من امتلاكه منظومة دفاع جوي متعدّدة المستويات من الأفضل على مستوى العالم، مع الإشارة إلى التكلفة العالية لكل صاروخ يُطلق من تلك المنظومات، وهو الأمر الذي يزيد في تكلفة الحرب إلى مستويات غير مسبوقة.
أحد الأهداف فائقة الأهمية، التي حاول حزب الله استهدافها مؤخراً، بحسب وسائل إعلام إسرائيلية من خلال الطائرات المسيّرة، كان القاعدة الجوية "رامات دافيد"، التي تُعَدّ واحدة من أهم ثلاث قواعد جوية في "إسرائيل"، إذ تحوي مطاراً عسكرياً، يوجد فيه ثلاثة أسراب من الطائرات الحربية، هي :(AS-565 /F-16C / F-16D)، ويخدم فيها أكثر من 1100 جندي، وهي تقع بالقرب من كيبوتس "رامات دافيد" الواقع في سهل مرج ابن عامر، بالقرب من مستوطنة مجدّو جنوبي مدينة حيفا، على بعد أكثر من 45 كلم عن الحدود مع لبنان.
في ضوء هذا الارتفاع الملحوظ في نسق عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، والذي فجّر موجة هائلة من الانتقادات الموجّهة إلى المستويين السياسي والعسكري في "إسرائيل"، وخصوصاً من جنرالات صهاينة متقاعدين، بالإضافة إلى قادة المعارضة في "الدولة العبرية"، والذين صبّوا، إلى جانب مستوطني الشمال، جام غضبهم على نتنياهو ومجلس حربه، بالإضافة إلى وزير الحرب ورئيس هيئة الأركان، والذين قاموا بزيارات متتالية للجبهة الشمالية، أطلقوا من خلالها سلسلة من التهديدات مرتفعة السقف، بشأن إمكان شن "جيش" الاحتلال عملية عسكرية واسعة داخل الأراضي اللبنانية، تؤدي إلى وقف هجمات حزب الله، وتُعيد قوات الرضوان النخبوية إلى وراء الليطاني، وتوفّر الأمن لعموم مستوطنات الشمال، على نحو يؤدي إلى عودة المستوطنين إليها.
إلّا أن هذه التهديدات قوبلت باستهزاء واستخفاف من معلّقين صهاينة في وسائل إعلام إسرائيلية مشهورة، رأوا فيها نوعاً من المغامرة غير المحسوبة، محذّرين في الوقت نفسه من الذهاب في اتجاه هذا الخيار غير الواقعي، والذي سيكلّف "إسرائيل" خسائر فادحة في الأرواح، إلى جانب الخسائر الاقتصادية التي قد تصل إلى انهيار اقتصاد "الدولة "، في حال استهدف حزب الله المنشآت الصناعية، وخصوصاً الشركات المتخصصة بالصناعات التكنولوجية، والتي تدرّ على الكيان الصهيوني مليارات الدولارات سنوياً.
إلّا أنه، في ظل المأزق الكبير الذي تعانيه قوات الاحتلال في جبهة غزة، التي تشهد فيها العمليات العسكرية مراوحة وعجزاً واضحَين، أقر بهما كثيرون من المحلّلين العسكريين الإسرائيليين، وهو الأمر الذي نتج من فشل الآلة العسكرية الإسرائيلية وإخفاقها في تحقيق أي من أهدافها المعلنة، إلى جانب استنفاد كل الخطط العملانية التي تم استخدامها في قطاع غزة، والتي اعتمد فيها الاحتلال على القوة العسكرية المفرطة، التي أدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى المدنيين، وإلى دمار هائل في البنى التحتية، في كل أنواعها، وهو الأمر الذي حوّل قطاع غزة الفقير والصغير إلى منطقة غير صالحة للسكن، بحسب تصنيف المؤسسات الأممية المعنية.
هذا المأزق في غزة، والذي تحوّل إلى ما يشبه الفشل المستدام، يمكن ان يدفع رئيس وزراء العدو المُهدَّد على الدوام من جانب حلفائه في الائتلاف، من أمثال بن غفير وسموتريتش، ووزير حربه الذي يُشار إليه إسرائيلياً بأنه أسوا وزير حرب في تاريخ "الدولة العبرية"، إلى الذهاب نحو مغامرة غير مأمونة العواقب في لبنان، يحاولان من خلالها التعويض من إخفاقهما في غزة، وتحقيق إنجاز ما هما في أمسّ الحاجة إليه للخروج من حالة الإحباط والقلق، والتي أصبحت تسيطر على كل مستوطني "الدولة"، بسبب المخاطر التي تحيط بهم من كل الجوانب.
في المغامرة الإسرائيلية المرتقبة، والتي يحذّر منها كثيرون من الخبراء العسكريين الصهاينة، ورؤساء وزراء سابقون، بالإضافة إلى قادة أجهزة أمنية متعددة في "الدولة العبرية"، تبدو خيارات العدو محفوفة بمروحة واسعة من المخاطر، قد تؤدي في مرحلة ما، ولاسيما في حال توسّع تلك المواجهة، إلى انهيار كل ما تبقّى من قوة ردع لدى "دولة" الاحتلال، وإلى سقوط السردية التي بنتها هذه "الدولة" خلال عشرات الأعوام، والتي اظهرتها وحشاً من فولاذ، لا يمكن الانتصار عليه، أو التصدّي له.
أحد خيارات العدو، التي يتم نقاشها في الدوائر الأمنية والسياسية، هو الذهاب في اتجاه عملية عسكرية محدودة، لا تتجاوز المناورة البرية فيها حدود القرى والبلدات اللبنانية الواقعة قرب الحدود، والتي تعرّضت خلال الفترة الماضية وما زالت لعمليات قصف مدفعي وجوي مكثف، في محاولة لوقف سيل القذائف والصواريخ قصيرة المدى التي يعتقد العدو انها تُطلق منها، أو الحد من عمليات إطلاق الصواريخ المضادة للدروع والتحصينات، والتي أرهقت، بصورة غير مسبوقة، الطواقم التي تؤمّن الحماية للمواقع التجسّسية المنتشرة بكثافة على طول الحدود اللبنانية الفلسطينية، إلى جانب مواقع القيادة والسيطرة، والتي باتت مكشوفة أمام صواريخ المقاومة وطائراتها المسيّرة.
في حال قام العدو بهذه العملية المحدودة، فإنه سيجد نفسه امام خسائر فادحة في صفوف الآليات والجنود، وخصوصاً في ظل امتلاك حزب الله منظومات مضادة للدروع حديثة، في إمكانها تحويل دبابات الميركافا إلى قطع من الخردة، وهو الأمر الذي شاهدناه بصورة مصغّرة في تموز/يوليو 2006 في بنت جبيل وعيتا الشعب ومارون الراس وغيرها من قرى الجنوب.
خيار ثانٍ قد يراه البعض من قادة جيش الاحتلال أكثر جدوى، وهو شن حملة قصف جوي مكثفة على كل الأراضي اللبنانية، شبيهة بما يحدث الآن في قطاع غزة، بحيث تؤدي هذه الحملة، التي تستهدف كل المنشآت التجارية والصناعية والصحية، والبنى التحتية، والمؤسسات السيادية والحكومية، بالإضافة إلى المقار والمواقع التابعة للمقاومة، إلى حالة من الثورة ضد فصائل المقاومة، وفي المقدمة منها حزب الله، مستغلة في ذلك بعض القوى اللبنانية المرتهنة للغرب، والتي تتلقى موازناتها المالية، وقراراتها التنفيذية، من بعض السفارات الغربية والعربية، وهي جاهزة كما أعلن اكثر من مرة بعض قادتها المشهورين بارتكابهم الجرائم والمذابح بحق اللبنانيين والفلسطينيين للقيام بهذا الدور.
هذا الخيار، مع ما قد يحمله من مخاطر جمّة على "دولة" الاحتلال، قد يصل في بعض تفاصيله إلى خسائر فادحة في المدن والمستوطنات الصهيونية، والتي لن تكون في منأى عن صواريخ حزب الله ومسيّراته، إلى جانب مخاطر تحوّلها إلى حرب إقليمية تأكل الأخضر واليابس في "دولة" الاحتلال، لن تؤدى في الغالب إلى الوصول إلى النتائج المرجوّة من ورائها.
فهي، من جهة، لن تؤدي إلى سقوط حزب الله أو انهياره، كونه يمتلك إمكانات هائلة، بحسب وصف مراكز بحث عسكرية دولية، تساعده على الصمود في وجه أي حرب محتملة، بالإضافة إلى أن توازنات القوى اللبنانية لن تسمح، من جهة ثانية، بحدوث انقلاب ما، أو على أقل تقدير بفلتان واسع يساعد على تحقيق بعض الأهداف الإسرائيلية.
خيار ثالث قد تلجأ إليه "دولة" الاحتلال، وإن كانت نِسَب حدوثه ضعيفة ومنخفضة، وهو شن حرب شاملة على كل الأراضي اللبنانية، تبدأ بموجة قصف جوي ومدفعي عنيف كالتي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، وتنتهي بهجوم برّي واسع، تصل من خلاله قوات الاحتلال إلى شمالي الليطاني، أو ربما أبعد من ذلك في اتجاه بيروت.
هذا الخيار الصعب للغاية، والذي هدّد من خلاله قادة الاحتلال في غير مرة بأنه سيعيد هذا البلد الصغير والجميل إلى العهد الحجري، يعني، من دون أدنى شك، ذهاب المنطقة برمّتها نحو معركة شاملة تشارك فيها أطراف متعددة، وتصبح فيها "دولة" الاحتلال في وسط موجة هائلة من الهجمات التي ستأتيها من كل حدب وصوب، وهو الأمر الذي حذرت منه مصادر أميركية قبل أيام، بحيث قالت إن أي عملية عسكرية واسعة ضد حزب الله ستكون كفيلة بإشعال كل المنطقة، وستواجه فيها "إسرائيل " كمية غير مسبوقة من الصواريخ والمسيّرات، التي ستدفع عشرات آلاف الإسرائيليين إلى مغادرة "إسرائيل" بحثاً عن ملاذات آمنة، بالإضافة إلى هروب رؤوس الأموال والشركات الكبرى، والتي تُعَدّ الركيزة الأساسية للاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى انهيار اقتصاد "الدولة العبرية"، على الرغم من كل الدعم الذي يمكن أن ترسله إليها الولايات المتحدة أو شركاؤها الغربيون.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإن حرباً كهذه يمكن أن تعجّل في تنفيذ حزب الله مخططاته المعلنة في احتلال مناطق في شمالي فلسطين المحتلة، ولاسيما في منطقة الجليل، وهو الأمر الذي سيُفقد جيش العدو إحدى أهم مناطقه المتقدّمة، والتي تحتوي على عدد كبير من قواعده العسكرية والتجسّسية.
بالرجوع إلى بعض كتب التاريخ، يمكننا ان نرى أن المقاومة لم تكن حدثاً طارئاً في حياة اللبنانيين عموماً، والجنوبيين بصورة خاصة، فهم كانوا على الدوام إلى جانب قضايا الأمة المحقّة والمشروعة، ولم يكونوا يوماً من الأيام في صف الأعداء أو الغرباء.
وعلى الرغم من تبايناتهم الداخلية الكثيرة، ومن الفسيفساء المتعدّدة التي يتكوّن منها هذا المجتمع متعدد الطوائف، فإنهم ظلوا أوفياء لعهدهم بمناصرة قضايا المظلومين، وفي المقدّمة منهم الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
هذا الشعب العزيز في بلاد الأرز والجبال الشامخة، في جنوبيه وشماليه، بمسلميه السنّة والشيعة، ومسيحييه ودروزه، سيبقى سنداً للمقاومة في كل الأوقات، وسيبقى، كما عهدناه، عزيزاً كريماً على الرغم من كل الضغوطات، حتى تحقيق النصر المؤزَّر، بإذن الله تعالى.