ليس الكيان الصهيوني "دولة" بالمعنى المألوف للدولة، فهو مشروع استعماري ضخم مموّل على نحو شبه كامل من الولايات المتّحدة (ومن يدور في فلكها عرباً وعجماً)، وهو، بهذا المعنى، أشبه ما يكون بإمبراطورية كبيرة تقع تحت الحماية الغربية الكاملة، وأيّ تبجح صهيوني خارج هذا الفهم الشامل لا يُعتدّ به، وكلّ خزعبلات وتصريحات غلاة الصهاينة المتدينين، التي يلمزون بها الإدارة الأميركية بزعم استقلال الكيان وحرّيته في اتخاذ قراراته، محض كلام لا رصيد له، أمّا هذرمات رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، غير مرّة، إنّ "إسرائيل" ستقف وحدها، إنّ اضطرّت، في وجه أعدائها فهي من نوع الفشخرة الكاذبة التي دأب الكاذب الأكبر في الكيان على صرفها بغير حساب.
وتأسيساً على هذا الجذر في فهم بنية الكيان، يمكن فهم الطريقة التي يُفكّك بها، وهو أمر بدا قريباً أكثر من أيّ وقت مضى، ومن الصعب، هنا، التكهن، حتَّى وفق الدراسات المستقبلية الاستشرافية، بالزمن الفعلي الذي تستغرقه عملية التفكيك، لكنّ هناك استقراءات مُهمّة لبدء تفكيك وتفكّك أحزمة الأمان التي تحيط به وتمنعه من الانهيار، وما حلّ بها تحديداً قبل وبعد "طوفان الأقصى"، والمعركة الطاحنة التي لم تزل تدور رحاها في فلسطين عموماً، وغزّة تحديداً.
أول أحزمة الأمان التي اهتزّت أركانها قبيل "طوفان الأقصى" بقليل، ذلك الشرخ الهائل الذي أصاب مجتمع الكيان في الاحتجاجات التي رافقت معركة التعديلات القضائية، التي ارتأى قسم كبير من سكّان الكيان الصهيوني أنّها تستهدف تغيير هُويّة "الدولة"، من نظام ديمقراطي إلى نظام أشبه بالأنظمة الثيوقراطية، إذ تتمدّد سلطة رجال الشريعة والدين على حساب رجال الدنيا والعلمانية، وأخذت هذه المعركة شكل التعديلات في القوانين الأساسية الناظمة للعلاقة بين السلطات، وتركّز الأمر فيما عُرف بقانون المعقولية، الذي سلب المحكمة العليا بعضاً من سلطاتها لمصلحة السلطة التنفيذية، ولسنا هنا في وارد شرح تفاصيل هذه المعركة، لكنّ دلالاتها بدت في إيجاد نوع من الدمار، الذي لا يرجى إصلاحه، في ما يسمّى "وحدة الأمّة"، وهو أمر يعوّل عليه كثيراً في الكيان، باعتباره "جزيرةً" معزولةً وسط بحر مُعادٍ، فهي جسم غريب عن الشرق بكلّ صفاته، غير مُنتمٍ فعلاً لا إلى دينه ولا إلى عاداته ولا إلى لغته، ولا إلى حضارته عموماً، الأمر الذي يقتضي لصموده الحفاظ على حدّ معين من الوحدة والتماسك لمواجهة "الأعداء"، وقد أصابت معركة التعديلات القانونية، تلك، هذه الوحدة في مقتل، ومن يرقب الأحداث التي كانت سائدة إبّان تلك المعركة يعلم أنّ أحد أحزمة أمان الكيان الأكثر أهمّية أصابها عطبٌ لا يُرتجى إصلاحه، ورافق تلك المعركة تداعيات كانت بمثابة قنابل موقوتة في بنية الكيان، وحان وقت انفجارها، وأهم هذه القنابل الصراع المزمن بين المتدينين والعلمانيين، خاصّة بعد تعاظم حضور الدين وأهله في مفاصل الحياة المُهمّة في الكيان، سيّما الأجهزة الأمنية والجيش، ولم يُؤثّر هذا الحضور في زيادة توحّش أساليب الاحتلال الموجّهة للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال فقط، بل تعدّاه إلى العلاقة البيّنيّة داخل مستعمري الكيان.
أول أحزمة الأمان التي اهتزّت أركانها قبيل "طوفان الأقصى" بقليل، ذلك الشرخ الهائل الذي أصاب مجتمع الكيان في الاحتجاجات التي رافقت معركة التعديلات القضائية
ثاني أحزمة الأمان، التي اهترأت على نحو لا يُمكن إصلاحه، ما يُسمّى قوّة الردع أو ردع القوّة، وهي قيمة حرص الكيان على زرعها في العقل الجمعي العربي كي لا يُفكّر أحدٌ في "التجرؤ" على مهاجمته، باعتبار أنّ أيّ محاولة من هذا النوع مآلها الفشل، ولطالما تحدّث قادة الكيان عن أهمية زرع الخوف والرعب في نفوس "الأعداء" لردعهم عن أيّ محاولة لمهاجمته، وقد رافقت عملية بناء هذا "الردع" ألوان شتَّى من التوحّش، لا يبدأ من ارتكاب المذابح البشعة ولا ينتهي عند التنكيل بالأسرى، وتحويل حياة الفلسطيني تحت الاحتلال إلى عذاب دائم، بل يشمل طيفاً واسعاً من الإجرام الصهيوني المُقنّن والمُؤسّس له بطائفة من الأدبيات والقوانين، كي يبدو هذا التوحّش ضرباً من السلوك القائم على القوننة والتنظيم، وبالطبع، وكما هو واضح لكلّ ذي بصيرة، فقد بدّدت معركة طوفان الأقصى كلّ معاني الردع، ووضعت مفهومه تحت أرجل مقاتلي المقاومة وصمود حاضنتها الشعبية، التي أبدت صلابة يكاد يعجز عنها بنو البشر، وذهاب ريح الردع، بهذا المعنى، أعاد للعربي، عموماً، الثقة بالقدرة على هزيمة الكيان، فلم يعد أقلّ الأعراب شأناً يؤمنون باستحالة هزيمته، بعد أن هزمت المقاومة الهزيمة نفسها المستوطنة في العقل الجمعي العربي، بصمودها العنيد وإثخانها في جيشه، فحوّلته أضحوكةً في الإعلام الغربي المُنْصِف، ولدى كثير من قادة العالم المُنعَتِقِين من سيطرة كذبة "اللاسامية"، وهذه الكذبة، تحديداً، هي حزام الأمان الثالث، الذي بدأت خيوطه بالتفكّك، بعد أن كان قلعة يستحيل الاقتراب منها، فما بالك بالبدء في هدمها؟
جديد أحزمة الأمان، التي تداعت، وربما أخطرها، العطب الذي أصاب "أسطرة" جيش الكيان وأجهزة استخباراته، بعد أن نكّلت بهما المقاومة الفلسطينية
تهمة اللاسامية، في الأصل، تلصق عادة بالذين يعادون اليهود "شعباً" سامياً، وهو مفهوم خاطئ من أساسه، لأنّ اليهود ليسوا الشعب السامي الوحيد، فالعرب ساميّون أيضاً، لكنّ الدعاية اليهودية احتكرت السامية أولاً، ثم حوّلت كلّ انتقاد لسياسات الكيان نوعاً من معاداة اليهود أو اللاسامية، إلى حدّ أن أصبح هذا المفهوم مترجماً في قوانين غربية تبني سياجاً حول الكيان وتحميه من النقد، وجاءت الانتفاضة الشعبية العالمية ضدّ جرائم الكيان في غزّة وعموم فلسطين، لتنحّي هذا "البعبع" جانباً، وتبعث في نفوس أحرار العالم ما يكفي من الشجاعة لركل هذا "الحزام" بأرجلهم، وكانت هذه أحد أكثر ثمار "طوفان الأقصى" أهمّيةً، وتبع هذا، بالطبع، عملية البدء بتفكيك الغطاء "الشرعي" الدولي للكيان، فغدا في غير ساحة مطارداً قانونياً ومنبوذاً، وما وضعُ أرفع قادته في قائمة المطلوب اعتقالهم إلا التعبير الأكثر وضوحاً عن ما نقول.
جديد أحزمة الأمان، التي تداعت، وربما أخطرها، العطب الذي أصاب "أسطرة" جيش الكيان وأجهزة استخباراته، بعد أن نكّلت بهما المقاومة الفلسطينية، أولاً، حين استطاعت اختراقهما في بداية الطوفان، ثمّ بمواجهة جيش الاحتلال بعد دخوله غزّة، ولا نقول احتلالها، لأنّه لم يستطع حتَّى الآن احتلال حتى متر مربّع منها، رغم اجتياح كلّ أراضيها. وهكذا، بدا الكيان وقد فقد أو كاد كلّ أسيجة أمانه، وهو ما يُؤذِن ببداية فعلية لتفكيكه، فإذا أضفنا إلى كلّ هذا بدء عملية زوال الغطاء الدولي له، أو ما يسمى زوال "الشرعية" الدولية، وبدء تخلّي بعض القوى والأنظمة والدول عن حمايته بعد أن أصبح مطارداً في المحاكم الدولية، فهمنا المغزى من حديثنا عن البدء الفعلي لعملية تفكيك أحزمة أمان الكيان.