Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

عدالة بيضاء… لتذهب المحكمة إلى الجحيم

محمد-جميح-150x150.jpg
فلسطين اليوم//وكالات

«لتذهب المحكمة إلى الجحيم» هكذا بكل بساطة وجرأة قال سيناتور أمريكي: «لتذهب إلى الجحيم» لا لشيء إلا لأن محكمة العدل الدولية توخت العدل ورفع الظلم، بإصدارها قراراً يأمر إسرائيل بوقف حربها الإجرامية على غزة.
وقبل أن يصاب عشاق «النموذج الأمريكي» بالدهشة نقول: نعم، السناتور عن الحزب الجمهوري ليندسي غراهام قال بالحرف الواحد: «لتذهب المحكمة إلى الجحيم…تحيزها ضد إسرائيل كبير».
وقبلها وصف الرئيس جو بايدن طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان بإصدار أمر اعتقال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه «أمر شائن» أما وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي يصف نفسه بأنه «ليس مجرد وزير خارجية للولايات المتحدة وحسب، بل يهودي كذلك» بلينكن رفض الطلب، وكأنه هو رئيس المحكمة، فيما أعلن رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون أنه يسعى لإصدار تشريع لفرض عقوبات على المحكمة، وقبله هدد مشرعون بفرض عقوبات على محكمة العدل الدولية، بسبب قبولها القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في المحكمة. ومن هنا بدأ كثير من الأمريكيين يطرحون تساؤلات كثيرة عن حقيقة من يسيطر على القرار في بلادهم.
«لتذهب المحكمة إلى الجحيم» إذن، ما دامت أحكامها وأوامرها تشمل إسرائيل التي يتم النظر إليها، على أنها فوق القانون، والعدالة الدولية التي تشمل الجميع مرفوضة، والعدالة المطلوبة هي تلك المقصورة على نطاق جغرافي وجيني محدد في عرف كثير من ساسة النظام الدولي، ذلك أن المؤسسات الدولية ذات العلاقة أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي كانت أغلب معاركها ضمن نطاق جغرافي وعرقي محدد، وبالتالي فإنه يُنظر لعدالتها على أنها عدالة يجب أن تكون منتقاة: جغرافياً وعرقياً، وإذا ما لبّت عدالة تلك المؤسسات طموحات كل الشعوب، ووافقت معايير طلبة الجامعات في كولومبيا وعشرات الجامعات في أمريكا وأوروبا وآسيا، وملايين المحتجين ضد الحرب، فإن هذه العدالة يجب أن تذهب إلى الجحيم، حسبما يرى أولئك الذين يفصلونها بمقاسات جماجمهم التي تأخذ شكل علبة سردين.
هذا هو منطق القوة الذي يراد له أن يغلب قوة المنطق، منطق يقوم على أساس أن من يطبقه لن يخسر شيئاً إذا ذهبت كل المؤسسات الدولية إلى الجحيم، مادام حق النقض يضمن استمرار الجحيم الإسرائيلي في غزة، وإذا تصورنا أن يصدر هذا المنطق عن مسؤول فربما نتفهم صدوره عن مسؤول في دول يصنفها ليندسي غراهام خارج حدود «العالم الحر» الذي تنتمي إليه الولايات المتحدة، وتحوز إسرائيل مكانة متقدمة فيه، رغم أنها دولة احتلال، ورغم أن هذا «العالم الحر» كان يشمل جنوب أفريقيا أيام سلطة نظام الفصل العنصري، الذي ميز مواطنيه على أساس اللون، وهو ما يوحي بأننا أمام «عالم حر» يعطي للون بعداً مهماً في التصنيف، حيث نصبح إزاء «حرية بيضاء» و«عدالة بيضاء» عنصرية لها لون عرقي.

ليس ضحية من يطالب بتحقيق العدالة له، ثم يقوم بعد ذلك بممارسة دور الجلاد، لأن تلك الضحية، إنما هي في الأصل جلاد لم تسمح له الظروف بممارسة جريمته

كان المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي يقول إن «الغرب لا يحمل قيمه معه خارج حدوده» في إشارة إلى أن ما يرفعه الغرب من شعارات، وما يعتقده من قيم إنما هي محكومة بالقواعد الجيوسياسية التي يراد لها أن تعيد تعريف المصطلحات، أو أن تعبئها بمفاهيم يلعب اللون دوراً بارزاً في تحديدها.
وقد رأينا نماذج لتطبيقات «منظومة حقوق الإنسان» على يد الجيش الأمريكي في الفلوجة وأبو غريب، وفي أرياف أفغانستان، ورأينا ذلك من قبل في فيتنام وأمريكا اللاتينية، في تجسيد واضح للانتقائية القيمية التي ترى أن المؤسسات الدولية وجدت لخدمة من أوجدها، وليس لتطبيق الأهداف السامية المكتوبة في دساتير تلك المؤسسات.
ومما يؤكد وجود تلك «العدالة الانتقائية» أن الولايات المتحدة الأمريكية كان لها دور بارز في إنشاء محكمة العدل الدولية، إذ استضافت عام 1944 مؤتمراً مهد لإنشاء تلك المحكمة، غير أن واشنطن انسحبت من «الاختصاص القضائي الإجباري» للمحكمة عام 1986، بعد أن قضت بأن حرب الولايات المتحدة السرية ضد نيكاراغوا تنتهك القانون الدولي. ومع ذلك أبقت واشنطن لنفسها الحق في قبول أحكام المحكمة على أساس «تقديري» وهو ما يتيح لها قبول ما تشاء ورفض ما تشاء من أحكام، في تكريس للمسعى الأمريكي المتمثل في توظيف العدالة لخدمة السياسة.
وإذا كانت أمريكا قد أسهمت في إنشاء محكمة العدل الدولية مع نهايات الحرب العالمية الثانية، لتخرج من إلزامية أحكامها بعد أكثر من أربعين سنة، فإن المحامي اليهودي من أصل بولندي رافائيل ليمكين هو الذي صاغ سنة 1944 مصطلح جريمة «الإبادة الجماعية» – التي ترتكبها إسرائيل اليوم في غزة – بعد أن فقد عدداً من أفراد عائلته على يد القوات النازية، وهي الجريمة التي اتهم بها ونستون تشرشل الجيش الألماني، ولم يجد لها مصطلحاً في حينه، عندما قال: «نحن أمام جريمة بلا اسم» حتى جاء المحامي ليمكين فصاغ مصطلح جنوسايد Genocide التي تعني «الإبادة الجماعية» وهي التهمة الموجهة لمن يسمون أنفسهم اليوم «أحفاد الناجين من المحرقة» حيث فشلت «المحرقة» في تلقين درسها لهؤلاء الأحفاد الذين استغلوها لجعل دولة الاحتلال الإسرائيلي فوق القانون، حتى وهي ترتكب الجريمة ذاتها التي ارتكبت ضد اليهود، خلال الحرب العالمية الثانية، مع الفارق في المكان والزمان والعرقية والأدوات والظروف.
ختاماً: ليس عادلاً من يلتزم بأحكام القضاء الصادرة ضد خصومه، ثم يرفضها إذا صدرت ضده أو ضد حلفائه، لأن «العادل» الذي يقبل الأحكام ضد خصومه دون نفسه، إنما هو في الأصل ظالم يوظف القضاء لصالحه، وليس ضحية من يطالب بتحقيق العدالة له، ثم يقوم بعد ذلك بممارسة دور الجلاد، لأن تلك الضحية، إنما هي في الأصل جلاد لم تسمح له الظروف بممارسة جريمته.
ووسط ركام غزة، وروائح الجثث والدماء وصراخ الأطفال والنساء، وأنين الجرحى والجوعى والثكالى، وقهقهات جنود الاحتلال، وتصريحات ليندسي غراهام، وسط كل هذه المأساة التوراتية الحجم، تلمع آية قرآنية عظيمة الدلالة»: «ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون» صدق الله العظيم.

كاتب يمني