تقترب اللحظة التي من المفترض أن يتخذ فيها الرئيس قراره بخصوص "خطة كيري". فمن الصعوبة إلى حد الاستحالة قبول الخطة من دون تعديلها، فالمطلوب حتى يستطيع أبو مازن قبولها أن تتضمن، على الأقل، بندًا ينص على أنّ التفاوض سيكون على أساس حدود 67،
حتى لو ترافق مع ذلك النّص على قبول مبدأ "تبادل الأراضي". وإذا أمكن كذلك تجاوز عقدة الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة" أو دولة للشعب اليهودي، والاعتراف بالقدس الشرقيّة كعاصمة للدولة الفلسطينيّة يكون ذلك أفضل. ولكن من دون الاعتراف بحدود 67 تكون الموافقة الفلسطينيّة على "خطة كيري" استسلامًا كاملاً من دون زيادة أو نقصان.
محنة أبو مازن لا تكمن في الموقف الإسرائيلي، فهذا الموقف واضح وضوح الشمس منذ زمن بعيد، وتحديدًا في ظل حكومة المتطرفين والمستوطنين برئاسة نتنياهو، فهي أسوأ حكومة منذ تأسيس إسرائيل، وإنما في أن ما طرحه كيري (وهو يمثل الإدارة الأميركيّة الراعي الوحيد للمفاوضات) يلبي من حيث الجوهر المطالب الإسرائيليّة، ومع ذلك لا توافق الحكومة الإسرائيليّة عليها حتى الآن، على الأقل، لأنها تريد تحقيق كل مطالبها لا جوهرها فقط. إذا وافق أبو مازن عليها سيكون وقف ضد شعبه ونضاله الطويل، وينهي حياته السياسيّة بأسوأ صورة ممكنة، ولا يضمن بالرغم من كل ما تقدّم تحقيق ما تتضمنه من "تنازلات" إسرائيليّة، فالتجربة الطويلة المريرة علّمت الفلسطينيين أن هناك فرقًا كبيرًا جدًا بين ما يُوَقَّع وما يمكن تطبيقه على الأرض، لأن إسرائيل قد توقع على شيء كنوع من الترضية ولضمان قبول الفلسطينيين للاتفاق من دون أن تنوي فعلاً تنفيذه.
وإذا رفض أبو مازن "خطة كيري" فَسَيُلام على إفشال السلام، وتبدأ حملة من المقاطعة وممارسة العقوبات ضده وضد السلطة، وإطلاق يد إسرائيل لكي تتصرف معه كما تشاء، وستبدأ عمليّة "شيطنته" باعتباره ليس شريكًا للسلام. صحيح أن هذه العمليّة ستكون صعبة وتدريجيّة، لأنه من الصعب اتهامه بـ"الإرهاب"، وهو الذي يعلن ليل نهار إيمانه بالسلام والمفاوضات كطريق وحيد لتحقيق المطالب الفلسطينيّة، ورفضه المقاومة المسلحة رغم أنها حق تقرّه الشرائع الدينيّة والدنيويّة لأي شعب واقع تحت الاحتلال.
بالرغم من كل ما قدمه أبو مازن، مطلوب منه أكثر، لأن الإدارة الأميركيّة لا تريد – رغم أنها تقدر- الضغط على إسرائيل، وتختار الضغط على الضحيّة (الطرف الضعيف)، بحيث انتقل كيري من محاولة الوصول إلى "معاهدة سلام" إلى البحث عن حفظ ماء وجهه بالتوصل إلى "اتفاق إطار"، إلى القبول بـ"ورقة مبادئ" (Blueprint) تسمح بتمديد المفاوضات، وهكذا تمحض كيري فولدًا فأرًا.
يبقى أمام أبو مازن الاحتمال الثالث الذي لا يقبل فيه ولا يرفض "الخطة الأميركيّة"، وإنما يبدأ في عمليّة تستهدف إلقاء اللوم على إسرائيل وتحميلها المسؤوليّة عن إفشال مهمة كيري، وذلك من خلال تقديم الأسئلة والاستدراكات ومحاولة استدراج أطراف عربيّة ودوليّة علّها تخفف العبء عنه.
إن الخطابات والمقابلات والتصريحات التي ألقاها أبو مازن في الآونة الأخيرة تدل على أنه اختار أن يكون جوابه على "خطة كيري": لعم. فالرسالة التي أرسلها إلى الإدارة الأميركيّة وأرسل نسخًا منها إلى الأطراف العربيّة والدوليّة المعنيّة، وما تضمّنته من مواقف وأسئلة، وما تردد عن أنه أخبر كيري بأنه لا يستطيع الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة"، لأنه سبق وأن اعترفت المنظمة بإسرائيل ما لم تعترف بها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربيّة على هذا الأساس؛ الأمر الذي حدا بوزير الخارجيّة الأميركيّة بالتعهد بأنه سيحصل على الموافقة العربيّة، لذلك ذهب إلى الأردن والسعوديّة، والتقى بوفد لجنة "المتابعة العربيّة" في باريس، وأرسل مساعده مارتن أنديك إلى القاهرة.
ما يفسّر التباينات الشاسعة حول مضمون "خطة كيري" وفرصها بالنجاح أنه يغير أفكاره باستمرار، ويطرح مواقف مزدوجة، فهو يتحدث من جهة عن الموقف الأميركي الذي يتحدث عن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة على حدود 67، وأن القدس الشرقيّة عاصمة للدولة الفلسطينيّة، والاستيطان غير شرعي، وعن حل منصف لقضيّة اللاجئين؛ ومن جهة أخرى يتحدث عن الحل الممكن، وهو الحل الذي يمكن أن تقبله الأطراف المعنيّة، ولا بد أن يشمل الاعتراف بإسرائيل كدولة "يهوديّة"، ويقرّ بطموحات الفلسطينيين في أن تكون لهم عاصمة في القدس من دون تحديد حدودها، وضرورة وضع وسائل تكنولوجيّة وأطراف ثالثة، مثل قوات أردنيّة وأميركيّة بإشراف ورقابة فلسطينيّة، على أن تبقي إسرائيل قواتها على الحدود وفي الأغوار لمدة زمنيّة تنتهي عندما يتم "تأهيل" الجانب الفلسطيني.
وبما أن نتنياهو تارة وحكومته تارة أخرى لا يقبلون بما يطرح كيري رغم تبنيه لجوهر الموقف الإسرائيلي، فلا بد من تغيير المقترحات الأميركيّة باستمرار حتى يقبلها نتنياهو لكي يستطيع أن يسوّقها في حكومته، أي أن ما يقبله نتنياهو أصبح هو المرجعيّة، ولعل ما أشاعته مصادر أميركيّة مؤخرًا عن استعداد نتنياهو للتوصل إلى "تسوية تاريخيّة" تتضمن الانسحاب من معظم الضفة المحتلة إذا وافق الفلسطينيون على تطبيقها خلال فترة طويلة، بحيث تطبق في عهود رؤساء الوزراء الذين سيخلفون نتنياهو، تندرج في سياق المحاولات الرامية لتسويق نتنياهو وترويض الفلسطينيين ودفعهم لقبول ما سيطرحه كيري في "قمة العقبة" القادمة.
من الصعب على أبو مازن أن يوافق على ما يطرحه كيري، وإذا وافق لن يستطيع تمرير ذلك فلسطينيًا، حتى داخل "فتح" والمنظمة، وهذا اتضح من خلال مواقف صدرت علنًا ويتم تناقلها سرًا عن مواقف أدلى بها عدد من قيادات "فتح" والمنظمة، وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده خمسة أعضاء من اللجنة التنفيذيّة، والبيان الصادر عن عدد من القوى والمؤسسات ومئات الشخصيات في الوطن والشتات، التي أعربت عن رفضها لقبول مقترحات كيري وأي صيغة تنتقص من الحقوق الفلسطينيّة.
إن المتوقع إذا لم تحدث معجزة في زمن لم تعد فيه المعجزات ممكنة، وإذا لم توافق الحكومة الإسرائيليّة على صيغة تتضمن التفاوض على حدود 67، ولو مع "تبادل الأراضي"، فإن جميع الأطراف ستحرص على تجنب الانهيار للمفاوضات وجهود كيري، لأن ذلك سيعود بالضرر على الجميع، بحيث يكون المخرج الاتفاق على تمديد المفاوضات على أساس الاتفاق على ورقة أقل من "اتفاق إطار"، تحتوي على القضايا التي ستتناولها المفاوضات وتسجيل المبادئ المتفق عليها بصيغة عامة وفضفاضة؛ يفسّرها كل طرف كما يشاء، على أن يتم الاتفاق على إطلاق سراح المزيد من الأسرى من المرضى وكبار السن، ورزمة مشاريع اقتصاديّة وخطوات تسمى خطوات "بناء الثقة".
ويمكن أن تقدم الورقة على أساس أنها تعبّر عن الموقف الأميركي من دون اشتراط موافقة الأطراف عليها، على أن يكون من حقها التحفظ عليها، ومن الأفضل بشكل سري.
إن تمديد المفاوضات على أساس مرجعيّة جديدة غامضة قابلة للتفسيرات المتناقضة، أي من دون مرجعيّة واضحة وملزمة تتضمن الحقوق الفلسطينيّة، ومن دون وقف الاستيطان، ومع استمرار تجميد التحرك الأممي، وفي ظل عدم وجود وحدة وطنيّة ولا مقاومة ولا مقاطعة شاملة؛ أمر سيئ جدًا. صحيح أنه أقل سوءًا من توقيع "معاهدة سلام" تصفي القضيّة أو "اتفاق إطار" يمهد الطريق لتصفيته، ولكنها أشبه بمن يتستجير بالرمضاء من النار، فاستمرار التفاوض لا يعني ضياع وقت ثمين فقط، فالوقت من دم وحقوق، ويتم فيه استكمال خلق أمر واقع احتلالي يجعل تطبيق الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح، إن لم يكن مرة واحدة فعلى مراحل.