حسن نافعة
عقدت لجنة السياسة الخارجية والأمن في الكنيست جلسة مغلقة حضرها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وأجاب فيها عن الأسئلة التي وجّهها إليه أعضاء هذه اللجنة. وقد كشفت إذاعة "كان" العبرية، يوم الاثنين الماضي 26/6/2023، عن بعض ما دار في هذه الجلسة حول مسألتين على جانب كبير من الأهمية: موقف "إسرائيل" من الدولة الفلسطينية من ناحية، وموقفها من السلطة الفلسطينية من ناحية أخرى.
في إجابته عن سؤال الدولة الفلسطينية، قال نتنياهو: "على إسرائيل استئصال فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من أساسها، وعليها أن تعمل بلا كلل أو ملل على قمع طموح الفلسطينيين في إقامة هذه الدولة، وأن تغلق الطريق تماماً أمام هذا الطموح".
أما في إجابته عن سؤال السلطة، فقد أكد أن "إسرائيل لا ترغب في انهيار السلطة الفلسطينية، ولا ينبغي لها أن تسمح بذلك، لأن لها مصلحة في استمرار قيام السلطة بالمهام الموكلة إليها"، ثم أردف قائلاً: "يجب أن تكون إسرائيل على استعداد دائم لمساعدة السلطة الفلسطينية مالياً واقتصادياً وتعزيزها، لأنها تقوم بهذه المهام نيابة عن إسرائيل".
قد يرى البعض أنَّ المواقف التي عبّر عنها نتنياهو في لجنة الكنيست لا تنطوي على أي جديد، وبالتالي تعكس مواقفه التقليدية المعروفة عنه جيداً منذ أمد بعيد، غير أنني لا أميل كثيراً إلى هذا الرأي، وخصوصاً أن نتنياهو بدا لي دوماً شخصية مراوغة، وشديدة الحرص على التمييز من ناحية بين السياسات والإجراءات المطبقة فعلياً على الأرض، والتصريحات الرسمية المعلنة والموجهة إلى الخارج من ناحية أخرى.
وفيما يتعلَّق بسياساته وبرامجه المطبقة على الأرض، يلاحظ أنّها استهدفت دائماً، ومنذ بداية تولّيه منصب رئيس الوزراء الذي شغله ما يقارب 12 سنة، وضع الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة أمام أمر واقع يجعل من إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 مسألة شبه مستحيلة.
أما تصريحاته ومواقفه السياسية المعلنة، فقد بدت في الوقت نفسه شديدة الحرص على عدم إحراج حلفاء الخارج، وخصوصاً أولئك الذين لا يكفون عن الحديث عن "حل الدولتين"، ويرون فيه الحل المناسب لتحقيق السلام والأمن في المنطقة، ولو كان مجرد حديث موجه للاستهلاك المحلي.
ربما يكون هذا التباين هو ما أدى إلى اعتقاد البعض بأنَّ نتنياهو لا يعارض من حيث المبدأ فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وأن معارضته تنصب فقط على حدود الدولة الفلسطينية وصلاحياتها.. ومن ثم فهو تباين يعود إلى رغبته في التمتع بهامش أكبر من حرية الحركة والمناورة في الساحة الدولية، غير أنني لا أميل إلى مثل هذا التفسير، وبالتالي أعتقد أنَّ تصريحات نتنياهو الأخيرة تكشف بوضوح قاطع أن مواقفه الرافضة قيام دولة فلسطينية مبنية على قناعات دينية أو أيديولوجية أكثر مما هي تعبير عن موقف سياسي أو تفاوضي.
لذا، يبدو لي أن الإفصاح عنها في هذا التوقيت بالذات ينطوي على رسائل شديدة الوضوح وموجهة إلى كل من يهمه أمر إقامة الدولة الفلسطينية، وخصوصاً الفلسطينيين والحكام العرب والدول الغربية، ولو كان حديث بعضهم عن الحاجة إلى دولة فلسطينية مجرد لغو يدخل ضمن باب "رفع العتب"!
هذه التصريحات تستهدف أولاً وقبل كل شيء تذكير الفلسطينيين، وخصوصاً مسؤولي السلطة الفلسطينية، بأن كل من يعتقد أن تطبيق اتفاقية أوسلو، ولو بحسن نية، ينبغي أن يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة داخل حدود 67 هو مجرد واهم يجري وراء سراب، ذلك أن اتفاقية أوسلو الموقعة في 13 أيلول/سبتمبر 1993 تنصّ على إقامة "سلطة حكم ذاتي انتقالي"، تسمى الآن "السلطة الفلسطينية"، ولا تتضمن أي نص يشير من قريب أو بعيد إلى دولة فلسطينية مستقلة.
صحيح أنها تتحدث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67، لكنها قسمت هذه الأراضي إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج" مع جدولة عملية الانسحاب إلى مراحل يستغرق تنفيذها 5 سنوات، وأجّلت الحسم في كل القضايا المتعلقة بالحل النهائي، وهي القدس واللاجئون والمستوطنات والترتيبات الأمنية وغيرها، إلى مفاوضات لاحقة تملك فيها "إسرائيل" حق الفيتو.
ولأن "إسرائيل" لم يكن لديها نية في أي وقت من الأوقات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بدليل أن أقصى ما حصلت عليه مصر في مفاوضات كامب ديفيد لعام 1978 هو "حكم ذاتي فلسطيني" في الضفة والقطاع، فقد كان من المتوقع أن تراوغ، وأن تنجح بالتالي في التهرب من تنفيذ أي التزامات تتعلق بالانسحاب وفرض الأمر الواقع على السلطة الفلسطينية، وخصوصاً من خلال توسع استيطاني خلت اتفاقية أوسلو من أي نص يجبرها على وقفه أو حتى تحجيمه.
أما بالنسبة إلى الموقف من "السلطة الفلسطينية"، فمن الواضح تماماً أن "إسرائيل" لم تنظر إليها في أي يوم من الأيام باعتبارها نواة لسلطة دولة تتمتع بالسيادة، إنما مجرد كيان يتولى إدارة الشؤون اليومية لسكان الضفة والقطاع، والنيابة عن "إسرائيل" في تتبع ومعاقبة كل من يجرؤ على حمل السلاح في مواجهتها.
هي إذاً سلطة لها وظائف محددة من المنظور الإسرائيلي، أهمها فصل سكان الضفة والقطاع والحيلولة دون دمجهم في المجتمع الإسرائيلي، حتى لا تطالب "إسرائيل" بمنحهم حقوق المواطنة، والتعاون مع "إسرائيل" في تعقب المقاومة الفلسطينية المسلحة واستئصالها.
أما الرسالة التي أراد نتنياهو أن تصل إلى الحكام العرب، من خلال تصريحاته الأخيرة، فمفادها أن "إسرائيل" مهتمة حقاً بتطبيع علاقاتها مع جميع الدول العربية، وخصوصاً تلك التي لم تقم بالتطبيع معها حتى الآن، ولكن بشروطها هي، وليس بالشروط المتضمنة في المبادرة التي تم تبنيها في قمة بيروت العربية عام 2002.
صحيح أن "إسرائيل" تدرك أنها نجحت في حمل العديد من الدول العربية على الخروج على هذه المبادرة، نصاً وروحاً، بالتوقيع على "اتفاقيات أبراهام"، من دون انتظار قيام دولة فلسطينية أولاً، لكن قادة معظم هذه الدول ما زالوا رغم ذلك يتبنون مواقف رسمية مطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67.
وصحيح أيضاً أنّ دولاً عربية أخرى لم تطبع علاقاتها مع "إسرائيل" حتى الآن، كالمملكة العربية السعودية، لا تزال تشترط موافقة "إسرائيل" على قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 قبل أن تقرر تطبيع العلاقات معها، غير أن تصريحات نتنياهو الأخيرة تقطع بأنّ "إسرائيل" لن تغير موقفها أبداً، ولن تقبل بمعادلة "التطبيع في مقابل الدولة الفلسطينية"، ومن ثم لم يعد أمام الدول العربية خيار آخر سوى القبول بتطبيع العلاقة مع "إسرائيل" من دون قيد أو شرط.
ولأنَّ غرور القوة وصل بـ"إسرائيل" إلى الحد الذي يجعلها تعتقد أنها قادرة على قطع الطريق تماماً على حلم الدولة الفلسطينية، من دون أن يعوق ذلك من إمكانية تطبيع العلاقة مع جميع الدول العربية من دون استثناء، فيبدو واضحاً إنّ إحدى أهم الرسائل التي أراد نتنياهو أن يبعث بها إلى القادة العرب من خلال تصريحاته الأخيرة تتلخص في أنه لم يعد أمامهم خيار آخر إذا ما أرادوا اتقاء شر "إسرائيل"، سوى القبول بتطبيع علاقاتهم معها والتخلّي نهائياً عن القضية الفلسطينية.
بقي أن نبحث في طبيعة الرسائل التي أراد نتنياهو أن يوجهها عبر تصريحاته الأخيرة إلى قادة الدول الحليفة التي ما تزال تتحدث عن "حل الدولتين" وترى فيه الخيار الوحيد المتاح لتحقيق سلام دائم وعادل في المنطقة، إذ يبدو أن نتنياهو بدأ يضيق ذرعاً بكل خطاب يتحدث علناً عن "حل الدولتين"، رغم حجم ما ينطوي عليه هذا الخطاب من نفاق، وخصوصاً أن الدول الغربية التي تتبناه لم تتخذ خطوة واحدة من أجل حمل "إسرائيل" على وضعه موضع التنفيذ، ولأنه يعتقد أن مجرد الاستمرار في ترديد هذا الخطاب، ولو على مستوى اللغو والشعارات الرنانة، يبقي الأمل حياً في نفوس الشعب الفلسطيني في إمكانية تحقيق حلم الدولة الفلسطينية يوماً ما، وهو ما لا يريده ويسعى لوأده بكل الوسائل المتاحة.
لذا، يمكن القول من دون تردد إن تصريحات نتنياهو الأخيرة تنطوي على مطالبة ضمنية للدول الحليفة، وخصوصاً الإدارة الأميركية الحالية، بالكف عن ترديد شعار "حل الدولتين"، لأن "إسرائيل" لن تقبل تحت أي ظرف قيام دولة فلسطينية مستقلة.
أخلص مما تقدّم إلى أنَّ تصريحات نتنياهو الأخيرة أمام لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي تقذف بالكرة في ملعب جميع الأطراف المعنية بقيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67.
لذا، بات على السلطة الفلسطينية أن تقرر ما إذا كانت ستقبل الاستمرار في القيام بدورها لحساب "إسرائيل"، وعلى حكام الدول العربية أن يقرروا ما إذا كانوا سيقبلون التخلي عن مبادرة بيروت للتسوية والانصياع نهائياً إلى الشروط الإسرائيلية، وعلى المجتمع الدولي أن يقرر ما إذا سيقبل بدوره الخضوع للابتزاز الإسرائيلي والتخلي عن منح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، وبالتالي إسقاط أحد أهم الأسس التي يقوم عليها صرح القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ولأنني أعتقد أن الشعب الفلسطيني ومقاومته المسلحة لن يقبلا الرضوخ لمثل هذه الإملاءات، حتى لو قبلتها جميع الأطراف الأخرى، فيمكن القول إنَّ النتيجة الوحيدة التي يتعين استخلاصها من تصريحات نتنياهو الأخيرة هي أن "إسرائيل" تتحدى الجميع وترفض السلام، ومن ثم لا تبقي إلا على خيار واحد، هو الحرب التي يبدو أنها باتت أقرب إلى المنطقة من حبل الوريد!
المصدر: الميادين