حاورها: نهى عبد الرازق
"على أصوات القصف، والقذائف تتساقط من حولي، تلقيت خبر فوز ديواني الشعري -انتماءٌ للنهار- بالمركز الأول عن جائزة أنطون سعادة في بيروت"، هكذا تبدأ الشاعرة الفلسطينية مريم قَوَّش من قطاع غزة - مخيم النصيرات تحديدًا، حديثها عن الفوز بهذه الجائزة في دورتها الثانية والذي أعلن عنه في مطلع آيار/ مايو 2023.
الشاعرة والأديبة "مريم قَوَّش" هي فلسطينية الأصل، ابنة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، قضت رحلتها المدرسية في مدارس المخيم للاجئين، عرفت بحبها للشعر والأدب والطبيعة منذ نعومة أظفارها، ثم درست اللغة العربية وآدابها في الجامعة الإسلامية، ولم يتوقف طموحها هنا، بل نالت درجة الماجستير في الأدب والنقد، لها اهتمامات جمّة في الكتابة والشعر والنثر والفن التشكيلي.
بين موسيقى الحرب والحلم
وقد ترشحت "مريم قوّش" في تشرين الماضي، لجائزة أنطون سعادة الأدبية للمبدعين الشباب في بيروت، التي أعلنت عنها عمدة الثقافة والفنون الجميلة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهي تهتم بثلاث فئات: (الشعر، الرواية، المسرح).
تضحك "قوّش"، وهي تروي قصة ترشحها لهذه الجائزة، واصفةً إياها بالغريبة، وتقول: "لم أحصل على أي قبول أو موافقة على الاشتراك، فنسيتُ الأمر تمامًا.. وإن أجمل الأشياء قدرًا تلك التي تأتيكِ مفاجأة.. والأكثر غرابة من ذلك، أن إبلاغي بالفوز كان في أول أيام الحرب على غزة وهي في أوجّها، وأصوات القصف تعلو كل الأصوات، وكان الخوف والذعر سيدا الموقف".
وتضيف "قوّش"، "أتاني اتصال من بيروت، لكني لم أجب، لأننا في الحرب لا نجيب على أي اتصال دولي أو رقم لا نعرفه، ولكن عندما تكرر أكثر من مرة قمت بفتح الخط دون أن أتكلم، لأسمع من يتحدث أولًا، فكانت الدكتورة فاتن المر، ترحب بي بلهجتها اللبنانية الطريفة وتهنأني بحصولي على جائزة أنطون سعادة للشعر".
ضماد سماوي
مشاعر مختلطة من الفرح المشوب بالألم، والدهشة من عطاءات وكرم الله عزوجل، عاشتها الشاعرة "قَوَّش"، منذ اللحظة الأولى التي تلقت فيها خبر فوزها، وكأن يدًا سماوية لا تربت على كتفها فحسب، وإنما تربت على كتف غزة بأكملها، فعلى الرغم من الوقت الذي تمر فيه غزة من دمار وقصف وغبار ووجع إلا أنه سيأتيها انتماءٌ للنهار ذات يوم، وستكون حرة مشرقة أبية.
بنبرة تشع منها ابتسامة عريضة يكاد السامع أن يراها، تعبر "قَوَّش" عن سعادتها الكبيرة لاهتمام المثقفين والإعلام الفلسطيني وتغطيتهم خبر فوزها بالجائزة وإعطائه المساحة التي يستحق.
"رفعتي راس المخيم"، بهذه الكلمات تعبّر عائلة "قَوَّش" وأهل المخيم عن فخرهم بكل إنجاز تحققه ابنتهم الشاعرة، وكل فوز تحصده، فهي تحظى بدعم كبير ولافت وسط سعادة غامرة تعيشها "مريم" مع كل تهنئة ومشاركة لها عند الفرح والفوز.
وبصوتٍ ممزوج ببعض من الحسرة، تقول: "فلسطين تستحق أن نحملها ونرفرف بها في كل أفق وفي كل مدى".
طفولة وظروف استثنائية
تشير "قوّش" إلى أن طفولتها كانت هادئة جدًا مقارنة بأقرانها، وتُرجع ذلك للبيئة الريفية التي كانت تعيشها شرق مخيم النصيرات قليل السكان آنذاك ، فلم تكن تسمع إلا صوت العصافير، ولا ترى إلا بيارة البرتقال التي تمتد خلف شباك منزلها امتداد الأفق، حتى صنعت منها عاشقة للطبيعة والجمال.
وتتابع، "كنت أمضى ساعات طوال وأنا أتأمل البيارات، وتلك المساحات الواسعة المزروعة بالقمح والشعير والحبوب، لقد كان ذلك ممتعًا.. كنت أتأمل العصافير وأرى الأحلام كما أرى الصباحات.. لقد خلقت الطبيعة الريفية الهادئة بداخلي تناغمًا جميلًا وفريدًا".
كانت تخفي "مريم" تحت وسادتها النصوص التي تكتبها قبل أن تذهب في نومها وأحلامها الصغيرة؛ لتستيقظ في صباح اليوم التالي دون أن تفقد شيئًا من ذاكرتها، وتسرع إلى والدتها لتطلعها على ما كتبت وتقرئها عليها كعصفور يدرب حنجرته كل صباح على الغناء.
وبالحديث عن مواقف عالقة في الذاكرة وثابتة لدى "قوّش"، تقول "أتذكر ذلك البريق الجميل الذي كنت أراه في أعين أساتذة النقد في الجامعة حينما سمعوا لي أول مرة، حتى قال لي أحدهم: هذا النص أكبر منكِ عمرًا، وسألني باستغراب شديد هل أنت من كتبتيه؟".
هذا الاستفهام، الذي كان يلاحق "قوّش" منذ رحلتها المدرسية، وذلك الاندهاش الحقيقي من براعتها في اللغة العربية والثناء المستمر على قوة تعبيرها، دفع مريم لأن تكتب الأفضل فالأفضل، حتى صارت تقدر على أن تكتب ما بوسعه أن يكون خالدًا.
وتشير إلى أن الجامعة نقلت الموهبة من كونها شيئًا عابرًا إلى تجربة حقيقية تثبت وجودها، فهي تؤكد أنها مع دراستها للأدب والنقد والنحو وفروع اللغة أصبحت الكتابة لديها أكثر وعيًا ونضجًا، وأكثر خبرةً وممارسة.
وتعود "مريم" لحديثها عن الحرب والشعر، وتؤكد أن للحرب أثر كبير على قصائدها، ففي عام 2020 أرسلت كل أعمالها الأدبية والشعرية لصديقتها في دولة مصر ومنحتها حق التصرف بها طباعةً ونشرًا في حال استشهدت.
بغصة تخبرنا "مريم" وكأنها تعيد لنا الوصية مرة أخرى، "لا أريد لكلماتي أن تموت مثلنا، أريد لكلماتي أن تكون شاهدة على ما نعيشه.. لا أريد لأحلامي أن تقتل حتى وإن قتلنا".
وتعد البيئة الفلسطينية بيئة مملوءة بالتناقضات والمفارقات سواء على الصعيد السياسي أو الأمني أو الفكري أو الاجتماعي، .... إلخ، وجميع هذه المتغيرات وأولها الحروب، جعل من القصيدة الفلسطينية قصيدة متفردة بأسلوبها ولغتها وحضورها الدولي والإقليمي.
تحت مظلة الأحلام
وتركز الشاعرة "قَوَّش" في ديوانها الفائز "انتماءٌ للنهار" على الجانب المشرق لوجه غزة، مدينة الأمل، الحياة، الحب، الحلم، والشعر، وتحاول أن تنقل من خلاله تجربة غزية فريدة تعبر عن الحلم المنشود والرغبة في تحقيق هذا الحلم بالوصول إلى النهار الذي تستحقه ويستحقه الفلسطيني عامة.
وفي سؤالنا عن سفرها وجولاتها الثقافية خارج غزة تجيب والتنهيدات بين كلماتها، "اكتشفت خلال رحلتي من معبر رفح البري إلى مطار القاهرة، أن هناك حيوات وعوالم أخرى نحن في غزة لا نعلمها، هناك صحاري لا نراها، هناك سماء حرة تحلق بها الطائرات دون ضجيج القصف، هناك سماوات هادئة دون ضجيج الزنزانة، هناك أشخاص يعيشون يحلمون يعملون دون أن يخشوْا قصفًا أو اغتيالًا!".
وبمشاعر يطغى عليها الشعور بالقهر، تكمل "ليس بوسع أي انسان في العالم أن يتحمل الظروف التي يعيشها الإنسان الفلسطيني، شعرت بألمٍ كبير وأنا أرى كم غزة جميلة بزيتونها وبرتقالها وأشجارها وسواحلها، ولكنها على الصعيد الآخر كم هي حزينة بكل ما فيها من وجع عميق وألم لا ينتهي".
حصاد وانجازات
وبعد التنقل في محطات كانت فارقة في حياة "قَوَّش"، نعود للحديث باستفاضة أكبر عن مشاركاتها الأدبية والجوائز التي حصدتها، فلم تكن جائزة أنطون سعادة هي الأولى بالنسبة لها، فأول الحصاد كان جائزة الشعر من الجامعة الإسلامية عام (2013م)، ثم فازت بجائزة جاكوتشي للأدب العالمي عن وزارة الثقافة اليابانية للشعر الدولي، وقد ترجمت قصائدها آنذاك إلى اليابانية والصينية. أما في عام (2021م) حصلت "مريم" على جائزة مؤسسة فلسطين الدولية في عمّان عن ديوانها "رسائل إلى البرتقال"، وفي العام نفسه فازت بجائزة دولة فلسطين التشجيعية للمبدعين الشباب عن ديوان "كما تمشي القطا".
لم يتوقف النجاح بها إلى هنا، بل استطاعت أن تضيف إلى حصيلة نتاجها فوزًا كان العلامة الفارقة في حياتها -كما تصفه بفخر واعتزاز- بحصولها على جائزة البحر الأبيض المتوسط للشعر العالمي من روما - إيطاليا (2022)، والتي نالها قبلها الشاعر محمود درويش والشاعرة فدوى طوقان.
وتوضح " قوّش"، أن ديوان "انتماءٌ للنهار" الذي سيصدر قريبًا عن دار الفكر في بيروت، ونحن نتحدث في بهاءه اليوم، ليس أول اصداراتها الأديبة والشعرية، فـ "سبع عجاف" هو الديوان الأول الذي صدر لمريم عام (2017م) عن دار الغاية للنشر والتوزيع في القاهرة، ثم صدر لها في العام (2019م) ديوان "كما تمشي القطا" عن دار روائع للنشر والتوزيع في القاهرة، ثم ديوان "رسائل إلى البرتقال" الذي صدر عن دار رواشد للنشر والتوزيع في الإمارات العربية المتحدة لعام (2022م).
فلسطين والقصيدة قضية واحدة
بثقة وفخر تتغنّى ضيفتنا بالفلسطينيين وابداعاتهم وانجازاتهم الحاضرة في كل الميادين الإنسانية والعلمية وليس الشعر فحسب، فكما تهدي "مريم" فوزها لفلسطين وشعبها، تؤكد أن هذا الفرح هو فرح لفلسطين وغزة وليس لمريم.
وبعد تنهيدة خفيفة وأخذ نفسٍ عميق، تتمنى الشاعرة الفلسطينية "مريم قَوَّش" ابنة مخيم النصيرات، أن تكون اللغة والقصيدة بخير، لتختم حديثها بالقول: "أتمنى أن تكون فلسطين بخير، وأن تكون القصيدة الفلسطينية بخير؛ لأنها رسالة انسانية للكون مفادها أن الفلسطيني من حقه أن يعيش حياة تليق به، حياة متفردة ملؤها الأمن والأمان والمحبة والسلام".
"مريم قوّش" ليست الفلسطينية الوحيدة التي نالت عن جدارة مركزًا متقدمًا في هذه المسابقة، فقد شاركها الفوز الفلسطيني "غسان نداف" عن فئة المسرح في عمله "جثة فوق الركام". وغيرهم الكثير من الفلسطينين الذي حصدوا مثل هذه المراكز المتقدمة، ليس في الشعر فحسب بل دائمًا ما يثبت الفلسطيني ذاته ووجوده، ليترك بصمته متفردًا بها في كل منبر تحط به قدمه أو يسبقه إليه قلبه. فالفلسطيني يؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة رسول، ويعرف جيدًا كيف ومتى وإلى أين يحملها.