تعيش القدس المحتلة حالة من الترقب المشبّع بالتوتر، على وقع ما يُسمى "مسيرة الأعلام" الاستفزازية التي تُنظمها جهات إسرائيلية سنوياً منذ عام 1968 احتفالاً باحتلال الشطر الشرقي من القدس في نكسة يونيو/ حزيران 1967 تحت مُسمى "يوم توحيد القدس".
وستُنظم المسيرة اليوم الخميس، بحيث تنطلق من غرب المدينة، لتشق طريقها عبر أبواب البلدة القديمة وصولًا إلى حائط البراق، وسط تأهب وتخوفات إسرائيلية من اشتعال الأوضاع في القدس.
وخلافًا لسنوات سابقة، تُنظم هذا العام أيضًا مسيرات باتجاه البلدة القديمة وتنطلق من المستوطنات المقامة في شرقي القدس، إذ تشعر الجماعات المتطرفة براحة أكبر في عهد الحكومة الحالية، ما دفع عددًا منها للإعلان عن نيتها محاولة اقتحام المسجد الأقصى بالأعلام الإسرائيلية، مثل حركة ما يُسمى "العودة إلى جبل الهيكل".
في ظل هذا الواقع والتخوفات الإسرائيلية الرسمية من تطورات قد تؤدي لاشتعال الوضع في القدس المحتلة، أعلنت الشرطة الإسرائيلية حشد أكثر من 3200 شرطي بمناسبة ما تسميه "مرور 56 عاماً على توحيد المدينة". وتقدر شرطة الاحتلال مشاركة عشرات الآلاف بالمسيرة المركزية التي تمر عبر أبواب البلدة القديمة.
من جهتها، تأمل حركات "نشطاء الهيكل" تحطيم الرقم القياسي لعدد اليهود الذين يقتحمون المسجد الأقصى في يوم واحد، علماً أن أكبر عدد من المقتحمين في يوم واحد سُجل في نفس المناسبة في العام الماضي وبلغ 2600 مستوطن.
"خطر على أمن الدولة"
على الرغم من الدعم الكبير للمستوطنين والحركات المتطرفة في عهد الحكومة الحالية ووجود ممثلين لهم في الحكومة ومراكز صنع القرار، فضلًا عن التوقعات بمشاركة تسعة وزراء في المسيرة، على رأسهم وزير "الأمن القومي" إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، إلا أن تخوفات الشرطة الإسرائيلية من تبعات المسيرة دفعها لإصدار أوامر إبعاد من البلدة القديمة لعدة نشطاء يهود لفترات متفاوتة، بزعم "تهدئة النفوس"، ولتقديراتها بتشكيلهم "خطرًا على أمن الدولة". في موازاة ذلك، أبعدت الشرطة بالمقابل عدداً أكبر من الفلسطينيين.
ومن بين المبعدين الإسرائيليين، بحسب ما نُشر في صحيفة "هآرتس" الثلاثاء الماضي، توم نسني، المدير التنفيذي لجمعية "الهيكل بيدنا"، والذي أُبعد بشكل استثنائي لمدة شهر بأمر عسكري وقّعه قائد "الجبهة الداخلية" رافي ميلو، الذي أشار إلى وجود "معلومات حساسة" تفيد بأن نشاطاته "قد تصل إلى حد تهديد أمن الدولة والجمهور"، مع وجود معلومات حديثة تشير إلى نيته "القيام بنشاطات استفزازية من شأنها التأثير على الوضع الأمني في البلدة القديمة".
بدورها، أكدت القناة (12) الإسرائيلية من خلال موقعها الإلكتروني، يوم الإثنين الماضي، أن المبادرة إلى مسيرات إضافية تنطلق من عدة مناطق في القدس إضافة إلى "مسيرة الأعلام" تقلق الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مشيرة إلى أن "الاستفزازات قد تشعل الوضع" في القدس، خاصة في ظل التوتر الذي خلفه العدوان الأخير على غزة.
لكن النوايا المبيّتة لا تقف عند هذا الحد؛ إذ دعت منظمة "عائدون الى جبل الهيكل"، التابعة لما يُسمى "منظمات الهيكل" التي تتنافس فيما بينها على استفزاز مشاعر المقدسين والفلسطينيين عموماً، إلى تنظيم مسيرة إضافية، في البلدة القديمة، تنطلق من منطقة باب الأسباط وصولاً إلى باب المغاربة، كما أعلن نشطاء المنظمة نيتهم اقتحام المسجد الأقصى رافعين الأعلام الإسرائيلية، فيما أعلنت شرطة الاحتلال أنها لن تسمح بتنظيم المسيرة داخل باحات الأقصى.
عنصرية واعتداءات على المقدسيين
وشهدت مسيرة العام الماضي العديد من الاعتداءات العنصرية والعنيفة ضد المقدسيين في البلدة القديمة، ما دفع عدداً من المقدسيين، ترافقهم جمعية "عير عميم" التي تُعنى بالصراع في القدس، إلى تقديم التماس عاجل الأحد الماضي إلى المحكمة العليا الاسرائيلية "ضد محاولة رسم مسارين إضافيين ينطلقان من مستوطنات جبل الزيتون بالقدس الشرقية".
وأوضحت الجمعية عبر صفحتها أنه "بعد نشر نائب رئيس بلدية القدس آريه كينغ معلومات حول خطة إضافية لتنظيم مسيرات تنطلق من أحياء القدس الشرقية، على عكس المسار المعتمد، والذي يمثل بالطبع إشكالية كبيرة في حد ذاته، قدمنا كافة التوثيقات التي لدينا للأحداث العنصرية التي شارك فيها المتظاهرون في العام الماضي، وأمرَ قاضي المحكمة الدولة بالرد على الالتماس اليوم (الأربعاء) الساعة 12:00".
وقالت الجمعية: "أصبحت (مسيرة الأعلام) في السنوات الأخيرة حدثاً يتخلله الشغب وتندلع المواجهات تحت رعاية الشرطة وأمام أعينهم ضد السكان الفلسطينيين وممتلكاتهم. هذا العام، تعمل عناصر يمينية، بمن في ذلك أصحاب المناصب العليا في الدولة، على توسيع العرض ليشمل أحياء فلسطينية إضافية، مما قد يؤدي إلى مزيد من العنف وشلل الحياة في القدس الشرقية.. كل ذلك يتعارض مع القانون والشروط التي حددتها المحكمة العليا في الماضي".
تظاهرات مضادة ودعوات للتصدي لاقتحامات الأقصى
مع تغول المستوطنين وأنصار اليمين وعموم المتطرفين بمختلف مسمياتهم، انطلقت دعوات فلسطينية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، دعت إلى شد الرحال إلى المسجد الأقصى والتصدي للاقتحامات.
في غضون ذلك، دعت جمعيات يسارية إلى التظاهر ضد مرور "مسيرة الأعلام" في البلدة القديمة من القدس. فيما اعتبرت جمعية "نقف معا" التي تضم نشطاء عربًا ويهودًا، أن "مسيرة الأعلام" هي مخطط لاستفزاز سكان القدس الفلسطينيين، "يرافقه هتافات عنصرية وعنيفة".
قلق من سيناريوهات في القدس والداخل
التقييم الإسرائيلي للأوضاع الأمنية في القدس مستمر عشية المسيرة، لكن من الصعب أن يؤثر بموجب المعطيات الحالية على تغيير مسارها، خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الكتلة البرلمانية لحزب "الليكود"، يوم الإثنين الماضي، بأن المسيرة ستُنظم كما هو مخطط لها بمسارها المعتاد، مهددًا برد إسرائيلي في حال التعرض لها.
وفي عام 2021 نفذت الفصائل الفلسطينية في غزة تهديداتها وأطلقت رشقة من الصواريخ باتجاه القدس تزامنا مع المسيرة، عقب الاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى ومحيطه، ما أدى إلى وقفها، وتلا ذلك العدوان الإسرائيلي على غزة.
لكن في هذه المرة تعوّل المؤسسة الإسرائيلية على امتصاص الجولة الأخيرة من العدوان على القطاع بعض الغضب الفلسطيني، وعلى صعوبة بدء دخول الفصائل في جولة جديدة من المواجهة، وبالتالي قد تستبعد احتمالات انطلاق أي قذائف صاروخية من غزة باتجاه القدس والداخل، لكنها بالمقابل، تخشى من حدوث تطورات في القدس نفسها، في حال مغالاة المستوطنين في استفزاز الفلسطينيين والاعتداء عليهم، ما قد يترك المدينة أم تصعيد جديد.
في غضون ذلك، تعتزم جهات يهودية متطرفة منها "النواة التوراتية" تنظيم احتفالات ومسيرات في البلدات الساحلية المختلطة، منها اللد والرملة، في نفس يوم "مسيرة الأعلام"، الأمر الذي قد يستفز مشاعر السكان العرب، خاصة إن رافقه تحريض وشعارات عنصرية معادية.
بهذا الصدد، نسبت صحيفة "يسرائيل هيوم"، في عددها الصادر الإثنين الماضي، إلى مصدر في الشرطة الإسرائيلية وصفته بالرفيع، قوله إن الشرطة تستعد لجميع الاحتمالات وإنها على "أهبة الاستعداد"، وذلك في ضوء ما حدث في "مسيرة الأعلام" عام 2021، والعدوان الذي أعقبها على قطاع غزة، وتلقي إنذارات كثيرة بشأن تنفيذ عمليات في حينه.
يُذكر أيضًا أن أحداث مايو/ أيار التي أعقبت "مسيرة الأعلام" والعدوان شهدت مواجهات بين فلسطينيي الداخل واليهود في الداخل، وخاصة في البلدات المختلطة، وهو أمر باتت تأخذه المؤسسة الإسرائيلية بعين الاعتبار. كما توجهت الشرطة في الأيام الأخيرة، إلى رؤساء السلطات المحلية في المدن الساحلية للتدخل من أجل "تهدئة النفوس" والحيلولة من دون حدوث تطورات.
"صراع السيادة"
من جانبه، قال الناشط المقدسي فخري أبو دياب لـ"العربي الجديد" إن دولة الاحتلال، وعلى رأسها غلاة المتطرفين، يحاولون بسط سيادتهم على القدس والتغطية على فشلهم في العدوان الأخير على غزة، من خلال هذه المسيرة.
وتابع: "في المقابل، أهل القدس وفلسطين سيحاولون إفشالها. بطبيعة الحال الشرطة تحمي هؤلاء، وبالتالي قد يكون يوم المسيرة يوماً عصيبا وكابوساً بالنسبة للمقدسيين. وقد تخرج ردة فعل تشعل القدس من جديد. هذه المسيرة هي أصلًا محاولة لاستفزازنا كمقدسيين".
بدوره، قال مسؤول دائرة الخرائط في بيت الشرق وجمعية الدراسات العربية، خليل التفكجي، لـ"العربي الجديد"، إن "إسرائيل تريد أن تقول إن القدس هي عاصمة للدولة العبرية وقلب الشعب اليهودي.. تريد أن تثبت للعالم أن القدس غير قابلة للتقسيم، وإن السيادة للإسرائيليين، وإن عملية السلام التي تقضي بأن تكون القدس الشرقية عاصمة فلسطين هي مجرد أحلام. هذا جزء من السياسة الإسرائيلية تجاه المدينة".
وأضاف: "منذ 1967 يحاول الجانب الإسرائيلي إثبات أن القدس تحت سيادته، وهذا يدل على عدم اقتناعه بأنها تحت سيطرته فعلًا. (مسيرة الأعلام) بدأت ببضع عشرات من المشاركين عام 1968، لتصل الى عشرات الآلاف في السنوات اللاحقة، كما أن ثمة أحزابا إسرائيلية تحاول توظيف المسيرة من أجل مصالحها السياسية".
وتابع: "عملية التصدي للمسيرة والمخططات الإسرائيلية في القدس بحاجة لقوة أكبر. الجانب الإسرائيلي يضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية، ويعتبر أن القدس تحت سيادته. لا يوجد عملية توازن قوى. من خلال مسيرة الأعلام يحاول الجانب الإسرائيلي أن يفرض أمرًا واقعًا على الأرض. كما أنه يتحدى قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية والعالم ككل. الثورة الشعبية مثلما حدث في قضية البوابات الإلكترونية عام 2017 يمكن أن تغيّر شيئًا، لكن هذا يحتاج إلى قرار سيادي فلسطيني، والقرار غير موجود. القيادة غائبة والانقسام مستمر لذلك يجد المقدسيون أنفسهم لوحدهم في كل مرة من جديد".
واستطرد قائلا: "منذ سنوات لاحظنا أن الجانب الإسرائيلي يقيم الأنفاق والجسور والبنية التحتية للربط بين مختلف مناطق القدس وإقامة مؤسسات ووزارات في القدس الشرقية، وهذا في سياق دمج القدس الشرقية والغربية ومنع تقسيمها. تصرف أموال ضخمة في سبيل ذلك، مثل مشاريع وادي السيليكون الاستيطاني، شارع الأنفاق في شعفاط وغيرها، وهذا شيء خطير جدًا ولا يوجد أي نقد من المؤسسات الدولية رغم اعتبارها القدس الشرقية أرضًا محتلة".