تعتمد الروابط بين مناطق الدماغ المختلفة المسؤولة عن معالجة اللغة على اللغة التي نشأ عليها الفرد.
وكشفت دراسة جديدة بمساعدة التصوير المقطعي بالرنين المغناطيسي أن اللغة الأم التي نتحدثها تشكل وسيلة الاتصال في أدمغتنا التي قد تكمن وراء طريقة تفكيرنا، بمعنى أن اللغة الأم للشخص قد تشكل كيفية بناء الدماغ للاتصالات بين مختلف محاور معالجة المعلومات.
وكانت الفروق الملحوظة في هياكل الشبكات اللغوية هذه مرتبطة بالخصائص اللغوية في اللغات الأصلية للمشاركين في الدراسة: الألمانية والعربية.
قال ألفريد أنواندر، الباحث في معهد ماكس بلانك لعلوم الإدراك البشري والدماغ في ألمانيا الذي قاد الدراسة المنشورة في مجلة NeuroImage: "لذا فإن الاختلاف الذي وجدناه هناك لا ينبغي أن يكون بسبب الخلفية العرقية المختلفة ولكن حقا بسبب اللغة التي نتحدثها".
وعلى الرغم من أن شبكة اللغة تنمو لتصبح واحدة من أقوى الشبكات في الدماغ، إلا أن الاتصالات عند الولادة تكون ضعيفة.
وأوضح أنواندر أنه بينما نتعلم الكلام، تقوى الروابط بين مناطق الدماغ المختلفة المسؤولة عن أنواع مختلفة من معالجة اللغة، مثل التعرف على الكلمات من الأصوات وتفسير معنى الجمل.
وقد تفرض اللغات المختلفة "ضريبة" على بعض أنواع معالجة اللغة أكثر من غيرها. وأراد الباحثون أن يروا كيف تؤثر هذه الاختلافات على تكوين الروابط في الدماغ.
وسلطت الدراسات السابقة الضوء على مناطق الدماغ التي تنشط أثناء معالجة اللغة. وتقع هذه المناطق بشكل أساسي في نصف الدماغ الأيسر، على الرغم من أن كلا الجانبين من الدماغ يتم استدعاؤهما في المعالجة السمعية، والمنطقة التي تقيّم الضغط والتنغيم في نطق الكلمات تقع في النصف الأيمن.
وأشار باتريك فريدريش، الباحث في معهد علم الأعصاب والطب في مركز أبحاث يوليخ في ألمانيا، والذي لم يشارك في الدراسة، إلى أن شبكة لغة الدماغ يُفهم على أنها "عالمية إلى حد ما بين المشاركين من لغات أصلية مختلفة"، ومع ذلك، لاحظ العلماء اختلافات في كيفية معالجة الدماغ للغات الثانية.
وأوضح فريدريش: "اعتقدت أن هذه الدراسة مثيرة للاهتمام حقا لأنها تُظهر لأول مرة اختلافا هيكليا اعتمادا على التجربة الأصلية، بدلا من اللغات التي تم تعلمها لاحقا".
وشملت الدراسة 94 مشاركا، نصفهم يتحدث الألمانية فقط، والنصف الآخر يتحدث العربية فقط، ممن استقروا مؤخرا في ألمانيا.
وعلى الرغم من أنهم يتحدثون لغات مختلفة ونشأوا في ثقافات مختلفة، فقد كان المشاركون متطابقين بشكل وثيق من حيث العوامل التي يمكن أن تؤثر على توصيلات الدماغ، مثل العمر ومستوى التعليم.
وتم الحصول على فحوصات الدماغ باستخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI).
ولا تُظهر الصور عالية الدقة تشريح الدماغ فحسب، بل تسمح أيضا بتتبع الاتصال بين مناطق الدماغ باستخدام تقنية تسمى "التصوير الموزون بالانتشار". وأظهرت البيانات أن اتصالات المادة البيضاء المحورية لشبكة اللغة تتكيف مع متطلبات المعالجة وصعوبات اللغة الأم.
وكشفت عمليات المسح أن الناطقين باللغة الألمانية أظهروا زيادة في الاتصال في مناطق النصف المخي الأيسر المشاركة في معالجة اللغة، مقارنة بالمتحدثين باللغة العربية.
وأوضح أنواندر أن اللغة الألمانية تعد معقدة نحويا، ما يعني أن معنى الجملة يتم استخلاصه بشكل أقل من ترتيب الكلمات أكثر من الأشكال النحوية للكلمات.
وقال إن مناطق المعالجة النحوية تقع في الغالب في الأجزاء الأمامية من النصف المخي الأيسر، لذا فإن الاتصال الأعلى داخل النصف المخي الأيسر أمر منطقي.
في المقابل، وصف أنواندر اللغة العربية بأنها معقدة لغويا، بينما يظل ترتيب كلمات الجملة أكثر ثباتا، يمكن أن تكون معاني الكلمات أكثر صعوبة لفك تشفيرها.
ولاحظ الباحثون زيادة الاتصال بين نصفي المخ الأيمن والأيسر للمتحدثين باللغة العربية.
وبمعنى أدق، فإن أدمغة المتحدثين بالغة العربية تعمل بطريقة أكثر تعقيدا من المتحدثين باللغة الألمانية، بالنظر إلى أن اللغة العربية تتطلب المزيد من الإنصات والتركيز بين المتحدث والمستمع، وبالتالي، فإن درجة معالجة المخ تحتاج جهد أسرع لفهم اللغة العربية التي يتحدث بها المتكلمين بالعربية.
وخلص الفريق إلى أن المتحدثين الأصليين للغة العربية أظهروا ارتباطا أقوى بين نصفي الدماغ الأيمن والأيسر من الناطقين باللغة الألمانية.
وشرح أنواندر أنه من الممكن أن تؤثر شبكة اللغة التي شكلتها اللغة الأصلية للشخص على القدرات المعرفية غير اللغوية الأخرى. على سبيل المثال، قد تتأثر ذاكرة المتحدث الألماني بضرورة سماع جمل كاملة قبل تحليل معناها.
وأبدى ديفيد غرين، أستاذ علم النفس الفخري في جامعة كوليدج لندن، تحفظات بشأن نتائج الدراسة، قائلا إنه بالإضافة إلى السمات اللغوية للغة، فإن السمات الثقافية للمحادثة، مثل كيفية استخدام الناس للإيماءات، قد تشكل أيضا شبكات الدماغ.
ولم تغطِّ الدراسة أيضا جميع مناطق الدماغ المشاركة في معالجة اللغة، ولم تشمل مقاييس نشاط الدماغ التي يمكن مقارنتها بين الأفراد.
وأكد غرين: "نحن بحاجة إلى فهم الطرق المتنوعة التي يمكن للدماغ من خلالها حل مهمة معينة وطبيعة هذا التنوع عبر الأفراد".
وهذه واحدة من الدراسات الأولى لتوثيق الاختلافات بين أدمغة الأشخاص الذين نشأوا مع لغات أصلية مختلفة ويمكن أن تمنح الباحثين طريقة لفهم اختلافات المعالجة بين الثقافات في الدماغ.
وفي دراسة مستقبلية، سيقوم فريق البحث بتحليل التغيرات الهيكلية في أدمغة البالغين الناطقين باللغة العربية أثناء تعلمهم اللغة الألمانية على مدى ستة أشهر.