قاسية ومحبطة حد اليأس، الأيام التي تتوالى على "اختفاء" المستوطنين أو الجنود الإسرائيليين الثلاثة، فيما يعجز نتنياهو، وآلته الأمنية والعسكرية عن العثور على الخاطفين والمخطوفين، جثثاً كانوا أم أحياء.
هم ليسوا في قطاع غزة، حتى يحسم بنيامين نتنياهو أمره، فيحمل حركة حماس المسؤولية عن اختفائهم، فيبادر الى تصريف جزء من فائض قوته للقتل والتدمير، والتخريب، وفرض العقوبات الجماعية، كما حصل بعد اختطاف الجندي جلعاد شاليت.
اذا كان اختطاف شاليت والاحتفاظ به لأكثر من خمس سنوات، قد أضاف فشلاً ذريعاً لأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، فإن "اختفاء" المستوطنين الثلاثة، في الضفة الغربية، وفي منطقة (ج) التي تقع تحت المسؤولية الإسرائيلية الأمنية، يشكل فشلاً آخر، يقدم لفشل حين تمر ثمانية ايام، دون ان تنجح الآلة الأمنية والعسكرية في العثور عليهم.
هو فشل في كل الحالات، سواء أكانت عملية الخطف جنائية، او سياسية او حتى لو كانت من مهربين، او مافيات، او سارقي سيارات او مضاربين. وبغض النظر عن الجهة التي قامت بعملية الاختطاف، ان كانت حماس كما تدعي إسرائيل والإدارة الأميركية، او غيرها، فإن هذه العملية تدل على قدرة عالية في التخطيط، ودقة في التنفيذ والإخراج، وتحضير متقن، الى الحد الذي ينبغي ان يثير الرعب في آلة الاحتلال بكل أنواعها، ومسمياتها، وقدراتها.
في أوضاع طبيعية ومنطقية، فإن معاني وأبعاد عملية كهذه، وبعد مسلسل الفشل الذي تعاني منه الأجهزة الإسرائيلية الأمنية، في أوضاع كهذه المفروض ان تنتظر، تغييرات جذرية، واستقالات لعدد من المسؤولين بما في ذلك رئيس الحكومة، او تغييرات في السياسة، ان كان الأمن يقف كما تسوق اسرائيل، على رأس أولوياتها.
في غياب المنطق، والطبيعي، بالنسبة لدولة احتلال كإسرائيل، وبإدارة سياسيين متطرفين، يتميزون بالعنصرية، والعنجهية، والغرور، يلجأ رأس الدولة، الى الإعلان عن اسرائيل في حالة حرب. "اختفاء" ثلاثة مستوطنين، يضع الدولة في حالة حرب، فأي دولة هذه وما هي طبيعتها، وسلوكها، وماذا تتوقع من المجتمع الدولي، اذا كان هذا السلوك سيؤدي الى فوضى في المنطقة، وقد ادى حتى الآن الى فوضى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد تشكل مقدمات لانتفاضة فلسطينية شاملة في حال استقرت واستمرت، وصمدت وتطورت عملية المصالحة الفلسطينية؟
الأمر برمته ينطوي على حرج سياسي وقانوني وأخلاقي، قد تتجاوزه دولة كالولايات المتحدة، بما هو معروف عنها، من تحالف ودعم أعمى لإسرائيل، ولكن من الصعب على دول اخرى كثيرة ان تتجاوزه.
المستوطنون في الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧، ومنهم المختطفون او المختفون هم واستيطانهم، غير شرعيين، ويخالفون القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وسياسات المجتمع الدولي باسره. هؤلاء معتدون على الشرعية والقرارات الدولية، وهم مدانون ابتداءً، وبالتالي فإنهم ليسوا ضحايا، ولا يتوفر أساس للتعاطف معهم، نزع عنهم سلوكهم العدواني البعد الإنساني فهم بشر ولكنهم ليسوا ابرياء.
لا شك ان الحكومة الإسرائيلية، وجدت مبررا، لتحقيق جملة من الأهداف السياسية لكنها حتى الآن، لم تنجح في التوظيف، ونشك انها ستكون قادرة على توظيف هذه الذريعة لتحقيق أهدافها.
أراد بنيامين نتنياهو، وتحالفه الحكومي، ان يتخذ من هذه الذريعة فرصة لإخراج إسرائيل من عزلتها، التي تسبب بها، على خلفية مواقفه وسلوكه إزاء العملية السلمية والمفاوضات والجهد الأميركي والدولي.
مخطئ اذ يعتقد نتنياهو ان عملية "اختفاء" المستوطنين تشكل ذريعة صالحة لإعادة ترتيب مكانة إسرائيل اقليميا ودوليا، وما لا يدركه رئيس الحكومة، هو انه بإمعانه في القتل والاعتقال والتخريب، وفرض العقوبات الجماعية على السكان المدنيين، سيعمق عزلة إسرائيل، ويعمق ازمتها حتى مع حلفائها.
واراد نتيناهو ان يوظف هذه الذريعة لضرب عملية المصالحة الفلسطينية، وان يعيد المشهد الفلسطيني الى مربع الانقسام، لكن الفلسطينيين رغم ما يبدو من تعثر المصالحة حتى الآن، لم يخضعوا ولم يتراجعوا، وحتى انهم خففوا من التصريحات والانتقادات السلبية المتبادلة التي كانت سائدة قبل عملية "الاختفاء".
المراهنة الإسرائيلية لم تتوقف عن تحقيق هدف ضرب المصالحة، ولأجل ذلك بادرت إسرائيل الى تصعيد إعمالها العسكرية ضد قطاع غزة، حيث عاود الطيران الحربي نشاطه بالقصف املاً في ان يصدر عن احد في القطاع، رد فعل كاف يوفر لإسرائيل ذريعة، لتوسيع العدوان، واذا كان ذلك لم يتحقق حتى الآن فإن المتوقع هو ان تصعد اسرائيل نوعيا عدوانها على القطاع حتى تحصل على الذريعة المطلوبة.
وأراد نتنياهو ان يرمم جبهته الداخلية، بعد ان تفاقمت التناقضات والخلافات حتى في الائتلاف الحكومي على خلفية السياسة التي يتبعها رئيس الحكومة، ذلك ان إسرائيل في حالة حرب تعني ان الجميع يجب ان يصمت، وان يلتف حول الحكومة والجيش، اذا كانت إسرائيل في حالة حرب كما يقول نتنياهو، فإن إسرائيل قد خسرتها حتى الآن، ومرور المزيد من الوقت على "اختفاء" المستوطنين سيؤكد هذه النتيجة. اذاً، يستطيع نتنياهو ان يؤجل الانفجار الداخلي. لكن هذا الانفجار آت لا محالة، وقد يكون كافيا للاطاحة بالائتلاف الحكومي، وبعدد من القادة والمسؤولين وهذا على المدى القصير.
على المدى البعيد، سيكون علينا، فحص تداعيات هذه العملية على اتجاهات عمل المستوطنين، والعلاقة بين المجتمع الاستيطاني والدولة والمجتمع الإسرائيلي.