الإعلام الجماهيري، التلفزيوني منه والانترنتي، هو الذي يوجه ناس اليوم، إلى حد كبير، ويتحكم في تكوين توجهاتهم وأمزجتهم و"أفكارهم" وميولهم السياسية.
هناك فواعل ولا عبون كثر بالتأكيد يؤثرون في الكتلة العريضة من الناس، لكن هؤلاء جميعاً يحتاجون إلى الإعلام ولا حول لهم ولا نفوذ من دون جسور التواصل التي يوفرها إعلام اليوم.
في اللحظة الراهنة كل منا يستطيع أن يتذكر جدل برامج تلفزيونية عديدة، وما نوقش فيها من آراء وأفكار، ويستطيع ان يتذكر تفاصيل بعض النشرات الاخبارية التي غطت احداثاً معينة، والشريحة الاكثر ميلاً باتجاه الافكار والثقافة لعلها تتذكر بسهولة ايضاً كتاباً تابعت نقاشه على هذه الفضائية او تلك، او لقاء ادبياً او فكرياً بُث مع هذا الاديب او ذاك الاديب. تأتي تلك "المتذكرات" وسط عاصفة لا تهدأ من الاعلام المتواصل والذي يتسم بالإيقاع السريع والحركة الدائمة التي ما ان تلبث ان تغطي حدثاً ما، حتى تنتقل إلى آخر جديد.
لا وقت في هذا الاعلام السريع لإنضاج الافكار وتعميقها والاستطراد في تفكيك طبقات معانيها.
كل ذلك يعني مزيداً من الاحتكار للفكرة السريعة اللافتة والمخرجة بطريقة جذابة، ولا يهم مدى سطحيتها، فالمهم هو مدى جاذبيتها.
ليس جديداً القول ان الفكرة العميقة وكل ما له علاقة بها يسقط ضحية اولية وسط تلاطم بحر الإعلام السريع وفيضانه عبر الحدود وعبر نوافذ البيوت وشاشات الهواتف النقالة.
والضحية المرافقة بطبيعة الحال هي صاحب الافكار نفسه، المثقف. ذلك ان جسور التواصل بين هذا المثقف وفي اية بقعة في عالم اليوم اصبحت محدودة بوسائل الاعلام الجماهيري، ولا وسيلة اخرى يتواصل من خلالها هذا المثقف مع من يريد التواصل معهم، او إيصال افكاره لهم.
وحتى يحصل المثقف على نافذة صغيرة وسريعة يهرّب من خلالها اياً من افكاره وتداعياته عليه ان يتنافس مع اخبار ساخنة على مدار الساعة اكثر جذباً، ومع استعراضات غنائية ومقطوعات تقودها مذيعات جميلات قضين نصف النهار امام المرآة، ومع برامج خفيفة وبراقة وموسيقاها سريعة ولا ترحم تأني المثقف وتأمله وعدم انتباهه للوقت الذي يجري في ساعة المخرج، وهو يلعن الساعة التي استضاف فيها "المثقف الُممل".
يظل المثقفون بالتالي محشورين في كتبهم وابحاثهم، وتئن الافكار التي ينتجونها من كساد القراءة والاطلاع.
بيد أن مشكلة الوصول للجمهور والتأثير فيه ليست إلا جزءاً من مشكلة اكبر تكمن في ضحالة انتاج الافكار في المشهد الفكري والثقافي العربي.
إذ حتى لو توفرت جسور التواصل على اوسع نطاق بين المثقفين وافكارهم والجمهور فإن ما سيتم نقله لن يكون بالشيء الكبير ولا العميق ولا المؤثر. ذلك انه من ناحية تأريخية وعمليه طبقة "المثقفين والمفكرين" في العالم العربي اصبحت رقيقة جداً، وليس هناك "مشهد فكري" تؤمه الافكار ويشهد اصطراعها وتعميقها وانضاجها.
الموجود هو مشهد انفصامي جزؤه الاول تكفيري، وجزؤه الثاني اقصائي، وكلاهما لا ينتج افكاراً، بل آليات لقمع الآخر.
على صعيد انتاج الافكار ذاتها نحن في مواجهة انسداد حقيقي، إن لم يكن تراجعاً.
وما يُكتب وُينشر بين الوقت والآخر هو إعادة تدوير لأفكار كتبت ونوقشت مراراً وتكراراً منذ حقبة ما تسمى "النهضة".
لم نستطع تفكيك الاشكاليات التي واجهها فكر النهضة منذ قرن ونصف: الدين والسياسة، العلاقة مع الغرب، وضع المرأة، التقاليد، العلاقة بين العلم والدين، الدولة الوطنية والامة، وهكذا.
كأننا اضعنا ذلك القرن ونصفاً من قرن آخر ونحن لا نمتلك الشجاعة الكافية لحسم اي من تلك الاشكاليات، وعوضاً عن ذلك نتلحف بتوفيقية تحاول ان تزاوج بين افكار متناقضة، فتتحول تكلساً حقيقياً على ارض الواقع وتحول حياتنا الفكرية والسياسية الى حالة حقيقية من الشلل.
وفي هذا السياق تنتقل المسؤولية إلى جانب المثقفين، وجانب انتاج الافكار، وليس فقط جانب الاعلام والجسر الناقل للأفكار المُنتجة.
والواقع ان غياب الجرأة الفكرية عند الشريحة العريضة من المثقفين العرب أمر لافت، ولئن امكنت الإشارة إلى بعض اسباب ذلك الغياب، فإن ذلك لا يقدم تفسيراً مقنعاً وشاملاً.
في كتابه الشهير عن المثقفين العرب والغرب والذي نُشر في سبعينيات القرن الماضي حاول هشام شرابي تحليل هذه "الظاهرة"، اي عدم جرأة المثقفين، وترددهم الكبير في القطع مع الفكر التقليدي والماضي المتكلس الذي يعيقهم ويعيق مجتمعاتهم.
شرائح المثقفين التي ناقشها شرابي انتمت إلى حقبة العقدين الاخيرين من القرن التاسع عشر والاوليين من القرن العشرين، والتي سماها شرابي حقبة التكوين.
مقاربة شرابي في فهم التردد الذي شاب اولئك المثقفين اعتمدت على تفكيك وتحليل السياق الاجتماعي والاقتصادي والنفسي الذي عاش فيه اولئك المثقفون.
ارتباطاتهم الحياتية واحتياجاتهم الاقتصادية، وانتماؤهم للأغلبية العربية المسلمة في مجتمعاتهم كبّل ايديهم وافكارهم، واضطرهم لأن يكونوا محافظين في طروحاتهم ويبقوا في اطار التوفيق بين الافكار المتضادة – او التلفيق في ما بينها.
على ذلك بقي الإرث القبلي والعائلي والديني وما يسميه شرابي البنية القروسطية مسيطرة على تفكيرهم، ومنعتهم من القطع الثوري مع واقعهم الاجتماعي والثقافي.
ثمة قرن ونصف القرن مرا على شريحة المثقفين التي ناقشها شرابي، ونحن اليوم امام شريحة اخرى، اقل تأثيراً وبروزاً، لكنها تعاني من نفس عوارض التردد وعدم الجرأة – إلا في حالات فردية هنا وهناك، وبما لا يشكل "مشهداً فكرياً" عاماً ينتقل بالفكر المجتمعي من مرحلة إلى أخرى.
هل ما زال تحليل شرابي صائباً إزاء جبن طبقة المثقفين في مواجهة البنية القروسطية، أم اننا نحتاج إلى تطوير تحليله في ضوء العقود الطويلة التي مرت؟ هل يمكن القول ان تلك البنية التقليدية الصلدة ذات المعالم القروسطية استطاعت ان تبتلع اجزاء من العقل الجمعي والفردي وتعيد تأكيد احتلاله والسيطرة عليه، بحيث ما عاد بالإمكان التحرر منها؟ بل إن التوفيقية والتلفيقية على علاتهما صارتا تعانيان من التردي والتقهقر امام الزحف المتواصل للبنية والتفكير القروسطي.
كأن السياق الذي احاط بشرائح المثقفين في مرحلة زمنية ما، امتد إلى داخل طرائق التفكير وحوّل البنية العقلية ذاتها إلى بنية قروسطية، وبذلك وعوض ان يدحر العقل الناقد السياق القروسطي، تمكن هذا الاخير من العقل ذاته واحتله وضمّه إلى بنيته المتخلفة.