بقلم د. وليد القططي
تتسع المأساة الإنسانية التي نتجت من كارثة زلزال تركيا و سوريا؛ بسبب الخسائر الهائلة في الأرواح والممتلكات، وهذا يتطلب تداعي كل دول العالم وشعوبها، لا سيما الأمة الإسلامية؛ لمساعدة الشعبين على تجاوز آثار الكارثة وتضميد جراح المأساة، خاصة الشعب السوري، نظراً إلى نقص إمكانيات الدولة السورية للقيام بعمليات إنقاذ الضحايا وتأمين المنكوبين و إعادة الإعمار، وهذا النقص في الإمكانيات ناتج من جريمة دولية متواصلة ضد سوريا، بتحريض من الكيان الصهيوني، وقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومشاركة دول الاتحاد الأوروبي، وتنفيذ بعض دول مجلس التعاون الخليجي.
والجريمة اتخذت أشكالاً مختلفة، بدأت بالعقوبات وانتهت بها، ومرت بالحصار والنهب، واستمرت بالفتن والحروب، ومحاولات التفكيك والتقسيم...والجريمة تحكمها فلسفة الاستكبار الأميركي كإطار، وبوصلتها مصلحة الكيان الصهيوني كهدف.
فلسفة الاستكبار الأميركي هي الإطار الذي يُحيط بتلك الجريمة المُرتكبة ضد سوريا، والتي بدأت بفرض العقوبات عليها، وهي العقوبات التي تفرضها أميركا على كثير من دول العالم، انطلاقاً من عقيدة التفوّق الاستعلائية العنصرية، وروح "الكاوبوي" الدموية الشريرة، وهي العقيدة النابعة من فكرة أفضلية حضارة الأنغلوساكسون البيضاء البروتستانتية على حضارات العالم، وفكرة التفويض الإلهي لأميركا من أجل إنقاذ البشرية أو التضحية بها، وهي الأفكار التي قادتها إلى إبادة ملايين البشر من سكان أميركا الأصليين الذين أعطتهم اسم "الهنود الحمر"، واستعباد ملايين البشر من سكان أفريقيا الذين انتزعتهم قسراً من بلادهم واتخذتهم قهراً عبيداً، ونهب ثروات الشعوب المستضعفة من خارج نطاق قارة أوروبا البيضاء في آسيا وأفريقيا.
وقد سبق وصاحب ارتكاب جريمة العقوبات الأميركية على سوريا ارتكابها ضد الدول للدخول في بيت الطاعة الأميركي، وأهمها: كوبا بعد الثورة الاشتراكية بقيادة الزعيم الثائر فيدل كاسترو، وإيران بعد الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الثائر آية الله الخميني، وكوريا الشمالية بعد الحكم الشيوعي برئاسة القائد الثائر كيم آل سونغ، وفنزويلا بعد انتخاب الرئيس الوطني الثوري هوغو شافيز...وصولاً إلى ارتكاب جريمة العقوبات على سوريا الرافضة للهيمنة الأميركية على بلاد العرب والمسلمين، والداعمة للمقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، خاصة بعد تمترسها في خندق الممانعة والمقاومة في عهد الرئيس السوري بشار الأسد.
هدف العقوبات المفروضة أميركياً على سوريا هو إخضاع سوريا شعباً ونظاماً ودولة للإرادة الأميركية؛ تحقيقاً لهدف أميركا الاستراتيجي كزعيمة للغرب بعد بريطانيا في حماية وجود الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة للمشروع الغربي الاستعماري في قلب الأمتين العربية والإسلامية. وكان موقع سوريا المركزي في محور المقاومة ضد الكيان الصهيوني سبباً كافياً لإصدار أميركا عام 2003م قانون "محاسبة سوريا"، بتأثير غطرسة القوة الأميركية بعد احتلال العراق في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
والقانون يُحمّل سوريا مسؤولية "دعم الإرهاب ضد إسرائيل"، بمعنى دعم المقاومة في لبنان وفلسطين ضد الكيان الصهيوني، وكذلك بسبب "صناعة أسلحة دمار شامل وصواريخ تُهدد أمن الشرق الأوسط"، بمعنى تُهدد أمن الكيان الصهيوني. وبذلك، كشف القانون بوضوح أنَّ العقوبات وكل الجرائم المُرتكبة ضد سوريا من حصار وفتن وحروب ونهب وغيرها هدفها حماية أمن الكيان الصهيوني ووجوده.
ولم يتوقف مسلسل العقوبات الأميركية ضد سوريا عند قانون "محاسبة سوريا"، فقد استمر بمشاركة أوروبا وزادت وطأته بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق الراحل رفيق الحريري عام 2005م، فأطلقت قانون "تحرير لبنان وسوريا"، وبررته الإدارة الأميركية بما ذكرته من "نشاط حكومة الجمهورية العربية السورية بما في ذلك دعمها للإرهاب، وتطويرها الصواريخ بعيدة المدى، ولبرامجها وقدراتها لتطوير أسلحة دمار شامل... ودعمها وتسهيلها النشاطات الإرهابية في العراق".
وهذا يعني، باختصار، دعم المقاومة العربية ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الأميركي للعراق، وإنتاج سوريا للسلاح المُهدد لأمن الكيان الصهيوني ووجوده.
وقد استكملت أميركا مسلسل العقوبات والحصار ضد سوريا كدولة متمردة على بيت الطاعة الأميركي ومقاوِمة للكيان الصهيوني، فأصدرت قانون "قيصر" عام 2020م بعد فشل مشروعها لإسقاط النظام السوري بالحرب الأهلية والخارجية في إطار "ثورات الربيع العربي"، على مدار عقدٍ من الزمان، وهو القانون الذي يحول دون مساعدة سوريا على استعادة قوتها كدولة مركزية في المنطقة، ويُعاقب الدول التي تحاول كسر الحصار عليها أو خرق العقوبات المفروضة ضدها.
قانون " قيصر" جاء ليكمل الحرب الصهيوأميركية الكونية على سوريا في إطار "ثورات الربيع العربي"، وليحقق ما عجزت الحرب عن تحقيقه بإسقاط سوريا الدولة، وإخراجها من معادلة القوة المُهددة للكيان الصهيوني، وفي إطارها استغلت أميركا وشركاؤها الأوروبيون وعملاؤها العرب مطالب الشعب السوري المُحقة بالحرية والتنمية ثغرةً للتسلل منها، فأخرجت مارد الفتنة الداخلية من قمقمه لتقسيم الشعب السوري الواحد إلى مذاهب وأعراق ومناطق، واستدعت شيطان التكفير الخارجي من صحراء نجد لتملأ الأرض السورية الموحّدة "مجاهدي" أميركا لتقسمها إلى إماراتٍ وممالك وإقطاعيات.
ورغم تجاوز سوريا الجزء الأكبر من تحدي الحرب الكونية الموجهة صهيوأميركياً ضدها، خاصةً خطر تقسيم الشعب والأرض، فإن نتائجها الخطيرة ما زالت موجودة، وتشل قدرات الدولة السورية في التعامل مع كارثة الزلزال أو الوصول إلى بعض أماكن الكارثة، وأهم هذه النتائج هو حرمانها من مواردها النفطية وأراضيها الزراعية المنهوبة أميركياً، وتدمير الجزء الأكبر من مواردها الاقتصادية، وتحويلها من دولة تتميز بالاكتفاء الذاتي في حاجاتها الأساسية من الغذاء والدواء والنفط... إلى دولة تحتاج إلى غيرها.
وهذه الجريمة التي أوصلت سوريا إلى هذا الوضع الكارثي بفعل العقوبات والحصار والحرب والنهب هي التي زادت وضاعفت كارثة الزلزال، بل وجعلت الجريمة المرتكبة ضدها بقصد وإصرار أخطر من كارثة الزلزال الطبيعية التي حدثت فيها.
تستطيع سوريا أنْ تتجاوز كارثة الزلزال بإمكانياتها الذاتية ودعم أصدقائها، ولكنها ستتجاوزها بالتأكيد بفاعلية وسرعة ومعها كل أزماتها الداخلية عندما تتوقف الجريمة المرتكبة ضدها بقيادة أميركية وتحريض صهيوني، وهذا يتحقق بإنهاء الحصار المضروب عليها أو كسره عربياً وإسلامياً، وإلغاء العقوبات المفروضة عليها أو خرقها عربياً، وإسلامياً على الأقل. وهذا يكتمل باستعادة سوريا لأراضيها المُحتلة ومواردها المنهوبة، وكل ذلك لاستكمال مشروعها الإصلاحي اقتصادياً وسياسياً.