بقلم/ د. وليد القططي
رغم ضآلة تجربتي الخاصة كأسير سابق في سجون الاحتلال لمدة (4) سنوات، مقارنة ً بتجربة المناضل الوطني كريم يونس في سجون الاحتلال البالغة (40) سنةً، لكن هذه المدة القصيرة نسبياً خلف القضبان تمنحني فرصةً متواضعة للكتابة من الأسرى وليس عنهم، والفرق بين الحالتين كالفرق بين الشعور بالبرودة في ليلِ شتاءٍ قار واستشعار البرودة في نهار صيفٍ حار، أو كالفرق بين الإحساس بالحرارة في نهار صيفٍ قائظ وتخيّل الحرارة في ليلِ شتاءٍ قارص. وهكذا الكتابةُ من الأسرى بشعورهم تولد من رحم المعاناة، والتعبير منهم بإحساسهم يخرج من قلب المقاساة، لاسيما عندما تكون الكتابة والتعبير عن رمزٍ وطني وجبلٍ فلسطيني قضى أطول مدة في الأسر الصهيوني سجيناً لمدة (40) عاماً، وهو المناضل الوطني كريم يونس.
كريم يونس رمزٌ وطني يُجلّه الشعب الفلسطيني ويُكرّمه، فضمه إلى قائمة الرموز الوطنية السامقة المغروسة في عمق الذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي، أمثال: عزالدين القسام، وعبدالقادر الحسيني، وياسر عرفات، وأحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وجورج حبش، وغيرهم، الذين اتخذهم الشعب نجوماً يهتدي بهم عندما يشتد ليل الاحتلال سواداً وظلاماً، وملاذاً يلجأ إليهم عندما تزداد نار الفُرقة احمراراً وحماوةً، وقناديلاً تُضيء بنورها طريق الكفاح للمناضلين وتشحن بزيتها روح التضحية للمقاومين، فأصبح كريم يونس مثل كل الرموز الوطنية الذين أحبهم شعبهم لأنهم أجادوا: صناعة الفرح وقت الحزن، وزراعة الأمل زمن اليأس، وإلهام البصيرة حين التيه، وتنوير الطريق وسط الظلام، وتصويب البوصلة بعد الانحراف.
كريم يونس جبلٌ فلسطيني يُبجلّه الشعب الفلسطيني ويوُقّره، فضمه إلى قائمة الجبال الفلسطينية الشامخة الراسخة في عمق الأرض الفلسطينية والجغرافيا الوطنية، أمثال: الجرمق، والكرمل، وعامل، وعيبال، والمكبر، وجرزيم، وغيرها، فقد صمد كريم يونس صمود الجبال الفلسطينية على مر الزمن أمام العواصف والأعاصير، ونجا بمدد الله ثم إرادته الصلبة من كل أساليب التدمير الجسدي والنفسي، فانتصر على جلاديه وهزم سجانيه، وأعطى نموذجاً مُشرّفاً لصمود الشعب الفلسطيني في أرضه ومقاومته لعدوه، وأعطى مثالاً حياً لانتصار: الموت على الحياة، والدم على السيف، والحرية على القيد، والأمل على اليأس، والإرادة على العجز، وأثبت حقيقة أنَّ الإنسانَ حرٌ طالما امتلك: إرادة الحياة، وروح التحدي، وعزيمة الكفاح، وشوق الحرية، وسر الصمود، وفلسفة المقاومة... حتى لو حجبه السجن أو غيبّه القبر.
كريم يونس الرمز والجبل أدرك أنَّ الأسيرَ شهيدٌ حي داخل أقبية السجن ، تسكنُ نفسه نار المأساة، وتسكن روحه نور الأمل، ومع توالي الأيام والليالي، تصهره نار المأساة مع انحسار مُتع الحياة، ويطهره نور الأمل مع إدراك سر الحياة، وبين تجاذب المأساة والأمل يستعيد السجين كامل إنسانيته وجوهر حياته، مُتجرداً من الإضافات ومتعرياً من الزخارف، فلا يبقى إلاّ إنسان تسكنه إرادة الحياة تشحذها شعلة الإيمان المتوقدة في النفس فتضيء عتمتها وعتمة السجن، وما بين تقلب المأساة والأمل ظل الشوق للحرية يعانقه مع إخوانه الأسرى كل ليلةٍ عندما يُرخي الليل سدوله، فيحتضن الأسرى أحلامهم بالحرية عند نومهم، فتضفي عليها قدراً من السكينةِ والأمان والرجاء، حتى يوقظهم كابوس الواقع مصحوباً بعدد الصباح (الإسفيراه)، وهكذا دواليك حتى يكتب الله للأسرى الحرية من سجن المكان أحياء أو سجن الجسد شهداء.
كريم يونس الرمز والجبل من قرية عارة في منطقة المثلث شمال فلسطين المُحتلة عام 1948م، اعتقل مع ابن عمه ماهر يونس مطلع عام 1983م على خلفية مقاومة الاحتلال من خلال انضمامها لحركة فتح، وحكم عليهما بالإعدام شنقاً ثم اُستبدل حكم الإعدام بالمؤبد المُحدد بـ (40) سنةً، وهذا حدث في ذروة سياسة (الأسرلة) التي اتبعها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني الصامد في أرضه المحتلة عام 1948م، وذلك يهدف تحويلهم إلى أقلية عربية بهوية مشوّهة تحت مُسمى (عرب إسرائيل)، تقوم بدور وظيفي على هامش المجتمع اليهودي، ويخدم الاحتلال الصهيوني، وبهدف تحويل كفاحهم الوطني التحرري إلى نضال مدني مطلبي سقفه المساواة المنقوصة والمشروطة بالولاء لدولة (إسرائيل) فكان نهج كريم يونس وإخوانه تمرداً على سياسة (الأسرلة)، ورفضاً لنهج (المتأسرلين) اللاهثين خلف أوهام المساواة والديمقراطية الإسرائيلية.
وهكذا أكد كريم يونس بعمله الثوري المقاوم في أزقة الوطن، وبعمره النازف سنواته في زنازين المُحتل، أنَّ بوابة خلاص الشعب الفلسطيني هي المدخل للخلاص الفردي، وأنَّ البحث عن خلاص الشعب الفلسطيني والتضحية بالخلاص الفردي هو الطريق لانتزاع حرية الوطن قبل حرية الفرد، التي تفقد قيمتها بعيداً عن حرية الوطن، ولذلك كتب بعد (32) عاماً من الأسر مؤكداً على هذه الرؤية وعلى وحدة فلسطين: الأرض والشعب والقضية والمقاومة، ومُعبّراً عن أسرى الداخل: "إننا أسرى الداخل الفلسطيني نرفض المحاولات الإسرائيلية العنصرية باستخدامنا ورقة مساومة للضغط على الرئيس والقيادة الفلسطينية على حساب حقوق شعبنا العادلة، ولا نتطلع إلى خلاصنا الشخصي بقدر ما نتطلع إلى خلاص شعبنا من الاحتلال" .
وقد كتب الله تعالى لكريم يونس خلاصة من السجن قبل خلاص شعبه من الاحتلال، وأنْ يخرج من سجن المكان حُراً حياً، بعد أنْ كان على وشك الخروج من سجن الجسد حراً شهيداً، في بداية اعتقاله عندما حُكم عليه بالإعدام قبل أن يُستبدل بالحكم المؤبد، وقد كتبت المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد رسالة له تُعزيه بوفاة والدته الحاجة الصابرة صبحية قبل شهور من تحرره بعد أنْ أوهنها طول الانتظار، وتذكره بحكم الإعدام ووحدة السجن والسجان: "... معاً لبسنا بدلة الإعدام الحمراء، أنت في سجن الرملة الصهيوني، وأنا في سجن وهران الفرنسي، ومعاً تدلي حبل المشنقة على رقابنا أشهر عديدة، معاً راقبنا الموت يزحف إلى أوصالنا ليل نهار، رؤوسنا كانت عالية، خاف الموت يا كريم، انقطع حبل المشنقة، لأنَّ القضية التي ناضلنا في سبيلها ثقيلة، لا تموت ولا تفني ولا تسقط، استبدلوا حكم الإعدام بالمؤبد، وكان السجانون يرتجفون وأرجلنا ثابتة".
عاش كريم يونس بعد حكم الإعدام زمناً دام أربعة عقود حتى تحرر من السجن مؤخراً دون أنْ ينسى إخوانه في الأسر الذين تقاسم معهم رغيف الخبز، وحزن السنين وتوق الحنين، وشوق الأحبة، وأمل الحرية، وبصيص الضوء، وخيوط الشُعاع، فكتب رسالته الأخيرة مُعبّراً عن حزن الفراق وفرحة اللقاء، فراق الأحبة في السجن ولقاء الأحبة خارج السجن، فكتب :"سأترك زنزانتي وأغادر؛ ولكن روحي باقية مع القابضين على الجمر المحافظين على جذوة النضال الفلسطيني، مع الذين لم ينكسروا، سأترك زنزانتي، وأنا عائد لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي النشيد الفدائي، نشيد العودة والتحرير". فخرج كريم يونس ليرى لحظة انتصاره على السجن الصغير المُحاط بالجدران والقضبان وبنادق السجان، وقد يرى لحظة انتصار شعبه على السجن الكبير المُحاط بالحدود والسدود والمُدجج بالجنود والحديد.
وإنْ لم يرَ لحظة الانتصار الكبير بعينه فسيراها بعيون الجيل القادم الذي يتسلم راية المقاومة وسيواصل مشوار التحرير، كما قال شاعر الثورة الفلسطينية محمد حسيب القاضي في قصيدته (استمروا) "يا صحابي لا يهم المقاتل حين يُضحي أن أرى لحظة الانتصار.. سأرى لحظة الانتصار.. سأراها بعيني رفيقي". وعندئذٍ سيكون الشعب الفلسطيني قد كسر قيد السجن الصغير والسجن الكبير، واقتلع الموت الصهيوني من الحياة الفلسطينية، كما قال الشاعر الفلسطيني الثائر معين بسيسو: "نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا... نعم لن نموت.. نعم سوف نحيا".