بقلم/ إحسان عطايا
دوافع الحرب الصهيونية:
يدرك الجميع أننا نواجه حربًا شرسة يشنّها العدو الصهيوني وخلفة الإدارة الأمريكية على فلسطين ومحور المقاومة عمومًا، تتخذ أشكالاً متعددة، وتهدف إلى تقويض المقاومة وتركيعها، لتمرير "صفقة القرن" التي صرح عنها ترامب، والتي أتبعها بايدن بوثيقة "إعلان القدس"، من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وتذويب اللاجئين الفلسطينيين في أصقاع العالم، وشطب حق العودة، واستكمال مخططات القضم والتهويد والتهجير، وصولاً إلى تغيير هوية فلسطين العربية، وإقامة ما يسمى بالسلام الاقتصادي بعد ترويض غزة الفاشل حتى الآن، لعقد هدنة طويلة الأمد معها، وذلك لتسهيل استباحة أوطاننا، والهيمنة على منطقتنا، وإحكام القبضة على مقدرات أمتنا العربية والإسلامية ونهب ثرواتها.
وعند الحديث عن دوافع الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة الأبية، واستهدافها "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، واغتيال قادة "سرايا القدس"، فلا بد من الحديث عن هدف العدو الصهيوني الرئيس من هذه الحرب، وعن دور "الحركة" في إعاقة تمرير المشاريع الخطيرة التي أشرت إليها أعلاه. لقد صرح قادة العدو بشكل واضح لا لبس فيه، أنهم يريدون ضرب "حركة الجهاد الإسلامي" وإضعاف قدرتها، وأن هذه الحرب موجهة ضد "الجهاد" بالتحديد، وهذا ما بدا واضحًا في الأشهر الأخيرة، من خلال اعتداءات العدو المتكررة التي كانت تستهدف المقاومين في الضفة الغربية بالقتل والاعتقال، ولا سيما في جنين ونابلس وغيرهما، حتى وصل الأمر إلى اعتقال القائد الشيخ بسام السعدي، ثم بعد أيام قليلة اغتيال القائد تيسير الجعبري في غزة.
من الواضح أن العدو وبالتنسيق الكامل مع الإدارة الأمريكية اتخذ قرار كسر "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" وإضعاف قوتها المتنامية، ولا سيما بعد تشكيل كتائبها المقاتلة في الضفة، والإعلان عن كتيبة جنين على لسان أمينها العام القائد الشجاع زياد النخالة، بعد عملية نفق الحرية الإبداعية التي كان بواسلها من جنين، ثم تبعها تشكيل كتيبة نابلس وطولكرم وغيرهما... وذلك لأن "الحركة" بما تملكه من قوة واقتدار باتت تشكل عائقًا كبيرًا أمام تمرير مخططاتهم التي باتت معروفة للجميع.
وربما ظن العدو الذي تفاجأ بقدرة "حركة الجهاد" على إدارة المعركة، بما فيها الرد الصاروخي وحجمه، أنه قد وجد الفرصة السانحة للاستفراد بها والانقضاض عليها، وأنها لن تتجرأ على الرد العسكري منفردة، بناء على معلوماته الأمنية والاستخبارية التي بنى عليها تقديراته الخاطئة. وذلك لأنها لم تنفرد بإطلاق الصواريخ على كيان الاحتلال في مسيرات الأعلام الصهيونية واقتحام المسجد الأقصى في شهر رمضان الماضي، التزامًا منها برأي الفصائل الفلسطينية الأخرى في غرفة العمليات المشتركة، حتى لا تظهر بمظهر المزايد على قوى المقاومة، في قضية الأقصى التي تعني الجميع.
إنجازات المعركة:
نستطيع أن نرصد جملة إنجازات قد تحققت في معركة "وحدة الساحات" التي قادتها "حركة الجهاد"، أبرزها:
1- منع العدو الصهيوني من كسر معادلة حماية المقاومين من الاغتيال التي ثبتتها "حركة الجهاد" على لسان أمينها العام (الرد على اغتيال أي مقاوم بقصف "تل أبيب").
2- صناعة معادلة جديدة، هي "وحدة الساحات" الفلسطينية في المواجهة مع العدو، وعدم السماح له الاستفراد بساحة فلسطينية من دون تدخل المقاومة في الساحات الفلسطينية الأخرى.
3- فضح العدو وكشف نقاط ضعفه، وعلى رأسها عدم قدرته على الصمود بوجه صواريخ المقاومة المصنّعة محليًّا، على الرغم من مساندة الولايات المتحدة الأميركية له، بكل ما تملك من قوة وإمكانيات على مختلف المستويات.
4- إفشال هدف العدو من عدوانه، وهو كسر "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" وإضعاف قوتها، ولا سيما بعد تنامي قدراتها، وتطورها الملحوظ بشكل عام، وفي الضفة بشكل خاص (كتيبة جنين، كتيبة نابلس...).
5- إثبات قدرة "الحركة" على إدارة معركة غير متكافئة عسكريًّا ضد العدو الصهيوني بوتيرة موجعة ومؤلمة له، على الرغم من استشهاد قائدين ميدانيين بارزين لها في غزة، هما مسؤول المنطقة الشمالية تيسير الجعبري، ومسؤول المنطقة الجنوبية خالد منصور، من دون أن تتأثر خطتها في رماية الصواريخ، بل ازدادت كثافتها في اليوم الثالث لتصل إلى خمسمائة صاروخ تقريبًا.
6- قدرتها على تفويت الفرصة على العدو في حربه الإعلامية والنفسية ومحاولته دق إسفين بين "حركة الجهاد" والشعب الفلسطيني عمومًا، وفي غزة على وجه الخصوص، وبينها وبين حركة حماس التي لم تشارك عسكريًا في هذه المعركة.
7- استنهاض الفعل المقاوم في الضفة الغربية، ولا سيما في جنين ونابلس وغيرهما.
8- استنهاض القوى الحية في أمتنا العربية والإسلامية، وهذا قد ظهر في التضامن الكبير الذي شهدته الأيام الثلاثة التي خاضت فيها "حركة الجهاد" معركة "وحدة الساحات" ضد العدو الصهيوني.
9- التفاف جماهير الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده حول خيار المواجهة العسكرية ضد العدوان الصهيوني على غزة.
10- أثبتت "الحركة" قدرتها على إدارة المعركة السياسية والإعلامية والنفسية، إلى جانب المعركة العسكرية التي تخوضها سراياها والفصائل الفلسطينية التي شاركت معها، بقوة واقتدار.
11- استطاعت "حركة الجهاد الإسلامي" أن تكسر هيبة العدو الصهيوني أمام كل العالم، وتظهر مدى ضعفه في مواجهة فصيل فلسطيني واحد، فكيف إذا اجتمعت كل الفصائل الفلسطينية؟! وكيف إذا اجتمعت كل قوى محور المقاومة، وتوحدت الساحات على مستوى المحور؟!
خيار الجهاد وازدياد المسؤولية:
لقد حسمت "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" خيارها منذ انطلاقتها، بتبنيها نهج الجهاد والمقاومة، وباشرت تنفيذ عملياتها البطولية ضد العدو الصهيوني، وأعلنت مشروعها القائم على القتال حتى إزالة الاحتلال عن أرض فلسطين ومقدساتها، وتحملت مسؤوليتها بلا تردد، وبكل شجاعة ودراية. لقد أدركت قيادة "الجهاد" مبكرًا أننا أمام خيارين؛ إما أن نستسلم لأعدائنا، ونصبح عمالاً لديهم، وخدمًا لهم، وعبيدًا أذلاء نحني الرؤوس ونجر أذيال الخيبة. وإما أن نبقى مرفوعي الهامات والرؤوس، نقاتل أعداءنا بقوة وإصرار، ونخوض معركة العزة والكرامة والتحرير. وهذا هو الخيار الوحيد الذي ينسجم مع أهداف "الحركة" وعقيدتها، ومفاده أننا سنبقى مستمرين في مسيرة الجهاد والمقاومة حتى تحرير فلسطين كل فلسطين.
أما ما تحقق من إنجازات، فإنه يحمل "حركة الجهاد" مسؤولية إضافية تجاه شعبها وأمتها. ومما لا شك فيه أن قيادة "الجهاد" متمسكة أشد التمسك بثوابت "الحركة" ومبادئها ومرتكزاتها، وتعمل بكل ما تملك من إمكانات وطاقات من أجل تطوير قدراتها وقوتها وبنيتها، والارتقاء بمستوى أدائها، والمحافظة على منجزاتها، لتبقى رأس حربة المقاومة ضد العدو الصهيوني. وهي تحمل على عاتقها مشروع التحرير الكامل والعودة إلى الديار مهما كان الثمن، وجاهزة للتضحية والفداء على طريق القدس وفلسطين، وفاءً لأرواح شهدائها ودماء جرحاها ومعاناة أسراها وتضحيات شعبها، ولكل من ساندها ودعمها وضحى معها وسار على هذا الدرب.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور البارز والمؤثر لشركاء "الجهاد" في هذه المعركة وإنجازاتها، سواء على المستوى العسكري، أم السياسي، أم الإعلامي، أم النفسي... ومن الجدير ذكره، أن هذه الإنجازات المهمة التي تمّت بعون الله تعالى أولاً وأخيرًا، لم تكن لتتحقق لولا دعم الجمهورية الإسلامية الإيرانية المستمر لفصائل المقاومة الفلسطينية، واحتضان الجمهورية العربية السورية وتقديمها كل التسهيلات اللازمة لها، ووقوف لبنان المقاوم إلى جانبها، ومساندة قوى المقاومة في محور المقاومة لها، والالتفاف الجماهيري والشعبي الفلسطيني والعربي والإسلامي حولها، وتضامن أحرار العالم وقواه الحية معها.
ضعف العدو وإرباكه:
يبدو أن كيان الاحتلال بات ضعيفًا وهشًّا، ومشاكله الداخلية كثيرة، والخلافات والصراعات بين قياداته لا تنتهي. وأصبح وجوده مهددًا بالزوال، ويعتمد في بقائه على جرعات الدعم الأميركي المطلق له، وعلى دعم حلفائه من دول الغرب، وتواطؤ النظام العربي الرسمي المنبطح أمامه والمرتمي في أحضانه.
ولم يعد بإمكان الكيان الصهيوني تحمل كلفة احتلاله لأية منطقة جغرافية، فما كان يحصل في الماضي أصبح متعذرًا حاليًّا، وذلك بسبب تنامي قدرات المقاومة العسكرية، وتطور أساليبها القتالية، وتميز أدائها بشكل عام، ناهيك عن تعرّض جنوده وقواته لضربات المقاومة وعملياتها العسكرية، كما حصل في جنوب لبنان وفي غزة، حيث اضطر العدو إلى الاندحار منهما مهزومًا. إضافة إلى ذلك، فإن جبهته الداخلية لا تستطيع تحمل حرب عسكٍرية، لا طويلة ولا قصيرة المدى. وكذلك تخوّفه من مواجهة أكثر من جبهة في آنٍ واحد، سواء على مستوى محور المقاومة، أم على مستوى ساحات فلسطين، كما حصل في معركة "سيف القدس"، حيث تعددت جبهات المواجهة (غزة والضفة الغربية والقدس والمناطق المحتلة عام 1948).
وهذا ما يزيد من إرباكه، ويظهر مدى عجزه، على الرغم من ترسانته العسكرية الهائلة التي يملكها، وتهويله الدائم، واعتداءاته المتواصلة في أكثر من مكان... غير أن معركة "وحدة الساحات" كشفت ضعفه وفضحته، فالجميع شاهد كيف أن فصيلاً فلسطينيًّا واحدًا، خاض معركة غير متكافئة عسكريًّا ضدّه، ولكنه أقوى بما يملك من إيمان وإرادة وعزيمة، وقادها وأدارها بحكمة وشجاعة، وأثبت للجميع عدم تحمل العدو تساقط الصواريخ على كيانه، ومسارعته منذ اللحظات الأولى بإرسال الوسطاء من أجل وقف إطلاق الصواريخ. وقد ظن خاطئًا أن "حركة الجهاد" يمكن أن تكتفي بإطلاق بضعة صواريخ، ردًّا على اغتيال القائد تيسير الجعبري، ثم يتم الضغط عليها من هذه الدولة أو تلك، واحتواء ردها الصاروخي. ولكن خاب ظنه، واستمرت المعركة لأيام ثلاثة متواصلة، وكانت سرايا القدس جاهزة للاستمرار أيامًا عديدة.
مماطلة العدو:
"وحدة الساحات" أوقعت العدو في مأزق كبير، فما قام به من اعتداءات في الضفة، بعد وقف إطلاق النار مباشرة، كان هدفه تغيير المشهد الإعلامي الصهيوني، وحرف أنظار الصهاينة عن حجم الأضرار التي تكبدها، لإخفاء خسائره في هذه المعركة وإخفاقه في كسر "حركة الجهاد" أو إضعاف قوتها، ومحاولة طمس إنجازاتها. وكنا نتوقع أن العدو سيعمد إلى المماطلة، ويحاول التنصل من التزاماته للوسيط المصري، ليبدو أمام جبهته الداخلية وكأنه قد حقق أهدافه، بما قام به من اعتداءات واعتقالات واغتيالات، وأن الأمور تسير وفقًا لمخططاته.
ولكن من المؤكد أيضًا أن العدو مربك جدًّا في التعاطي مع قضية الأسير المضرب عن الطعام خليل عواودة، والأسير القائد الشيخ بسام السعدي، وهذا قد ظهر جليًّا في أدائه خلال الأيام التي تلت وقف إطلاق النار حتى هذه اللحظة، فهو يعيش حالة من التوتر والتخبط، ولكنه في الوقت نفسه يحاول كسب الوقت في تغذية التناقضات الفلسطينية من جهة، واللعب على وتر الضغط على المقاومة من قبل حلفائه، لضمان عدم استئناف إطلاق الصواريخ على كيانه مجددًا. وبين نجاح العدو في تحقيق هدفه هذا وإمكانية التنصل من التزامه، ونجاح "الجهاد" في إرغامه على التراجع والتقهقر وانتزاع إنجاز جديد، تستمر المعركة بوجهها الآخر وأساليبها المختلفة، وشعار "الجهاد" فيها: لن يضيع حق وراءه مقاومة مصممة على الاستمرار في المواجهة حتى النهاية.
الحرب مستمرة:
المؤامرة ضد "حركة الجهاد" مستمرة، فالحرب الإعلامية والنفسية، وحرب تشويه الحقائق، وحرب الفتن والتحريض، وبث السموم، لم تتوقف، والعدو الصهيوني والأمريكي يستخدم أبواقه المأجورة وعملاءه وذبابه الإلكتروني وجميع أدواته لتشويه صورة "حركة الجهاد" وقادتها، ويشغّل أعوانه من المتآمرين والحاقدين، ويستفيد من الأبواق الإعلامية المشبوهة والجهلة من المحللين الذين يتحدثون بمنطق العدو ولغته، لكسرها أو إضعافها، ولدق إسفين بينها وبين شعبها وفصائله المقاومة.
ولكن من المؤكد أن "حركة الجهاد الإسلامي" ستبقى خنجرًا في قلب أعدائها، أعداء الأمة، وستبقى عصية على الكسر، وعصية على الترويض أو الاحتواء الذي يسعى أعداؤها والمتعاونون معهم إلى تحقيقه. وكل محاولاتهم ستبوء بالفشل حتمًا، طالما أن "حركة الجهاد" في صدارة المقاومة.
الدرس المستخلص والتحديات:
أهم درس نستطيع استخلاصه من هذه المعركة هو أن المقاومة قادرة على تحرير فلسطين من الاحتلال، ودحر العدو الصهيوني وهزيمته، إن اتخذت قرارًا موحدًا قائمًا على برنامج وطني بعيدًا عن الحسابات الضيقة. وهذا يستدعي تشكيل جبهة مقاومة، مهمتها التخلص من هذا الكيان الزائل الذي تسعى الإدارة الأميركية لجعله سيدًا حاكمًا بأمره في منطقتنا وشرطيًّا عليها، لنهب ثروات شعوبنا ومقدرات أمتنا.
نحن أمام مشروع خطير يستهدف شعبنا ومقاومته، ما يحتم علينا أن نكون حذرين ويقظين، وأن نوجّه طاقاتنا ونستجمع قوتنا لمواجهة عدونا، لا للانشغال عنه. وكذلك نحن أمام تحديات كبيرة تتمثل بمدى قدرتنا على الاستمرار في مقاومة العدو، وعدم الرضوخ له، وأن نمنع جرائمه وعدوانه المتواصل، ونوقف سفك دمنا، وقتل الأطفال والأبرياء من أبناء شعبنا، ونضع حدًّا لاستباحة مقدساتنا.