بقلم: هاني المصري
من نافل القول إن زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى بيت لحم ولقاءه بالرئيس محمود عباس ليست سوى جائزة ترضية للفلسطينيين، فالقضية الفلسطينية ليست من أولوياته، ويتم التعامل معها أكثر وأكثر كأنها قضية داخلية إسرائيلية، وتتعلق بالأمن والاقتصاد، وعبارة عن علاقات فلسطينية إسرائيلية، أقصى ما تهدف إليه الحفاظ على الوضع الراهن السيئ جدًا للفلسطينيين، ومنع تفاقمه، وصولًا إلى منع انهيار السلطة التي من المهم بقاؤها واستمرار دورها في إطار الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة.
ويكمن الهدف الرئيسي للزيارة في وقف تراجع شعبية إدارة بايدن عشية الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي جراء غلاء الأسعار والتضخم الأميركي وتعويض الطاقة الروسية، وتحديدًا النفط والغاز.
أما الهدف الآخر، فهو دفع عجلة التطبيع العربي مع إسرائيل، واستكمال عملية دمجها في المنطقة، عبر التوصل إلى اتفاقات أمنية وعسكرية واقتصادية، لن تصل على الأغلب إلى "نيتو عربي" بقيادة الولايات المتحدة وإسرائيل؛ ذلك لأن واشنطن لا تريد أن تلزم نفسها بالدفاع عن أمن الدول المرشحة للانضمام إلى هذا الحلف، ولأن بعض هذه الدول، وخصوصًا السعودية، ليست ناضجة، سواء للتطبيع الكامل، أو لحلف عسكري أمني كامل.
من المتوقع أن يقطع بايدن أثناء زيارته نصف الطريق أو أكثر نحو الاعتراف بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والاعتراف به لاحقًا بوصفه خليفةً، وسحب تحفظاته على السعودية التي دعا لنبذها بسبب جريمة قتل جمال خاشقجي والانتهاكات لحقوق الإنسان، مقابل قطع السعودية لمسافة ملموسة نحو التطبيع مع إسرائيل، وزيادة في إنتاجها النفطي لا تلبي بالضرورة كل ما تطالب به واشنطن، فالدول الخليجية تجد في التنافس الغربي مع الصين وروسيا هامشًا للمناورة، ولأن "نيتو عربي" موجه أساسًا ضد إيران لا ينسجم مع استئناف المفاوضات بخصوص الاتفاق النووي الإيراني، الذي يحرص الطرفان حتى الآن على إتمامه.
لا يقلل ما سبق من خطورة الخطوات التي يمكن أن تقدم عليها السعودية، تحديدًا فيما يخص التطبيع والأمن والاقتصاد مع إسرائيل، مثل السماح للطائرات الإسرائيلية بالمرور عبر الأجواء السعودية، والاتفاق على صفقات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية، وترتيبات أمنية على خلفية ولتأمين الحصول على الموافقة الإسرائيلية على نقل جزيرتي تيران وصنافير من السيادة المصرية إلى السيادة السعودية.
الكثير مما يجري في المنطقة متوقف على نجاح أو فشل المفاوضات حول النووي الإيراني، وفي حال التوصل إلى اتفاق، لصالح من، ومن الذي تنازل للطرف الآخر: الولايات المتحدة أم إيران، أم تنازل الطرفان وتوصلا إلى حل وسط؟
كما لاحظنا أن معارضة الدول الخليجية للاتفاق النووي لم تعد بالحدة التي كانت عليها، وكذلك المعارضة الإسرائيلية؛ حيث اتضح لإسرائيل أن الإدارة الأميركية ليست بوارد المبادرة إلى الحرب ضد إيران، وتتزايد القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية التي ترى أن اتفاقًا سيئًا مع إيران أفضل من عدم الاتفاق؛ لأنه يعطي إسرائيل المدة اللازمة لاستكمال الاستعدادات للحرب مع إيران، وهذا الهدف الذي استثمر فيه بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي الحالي، كثيرًا.
في كل الأحوال، الحرب الإقليمية ليست، ولم تكن، على الأرجح، على بعد ساعات أو أيام أو أسابيع، كما يتنبأ دائمًا صديقي عبد الباري عطوان، الذي خفف من توقّعاته أخيرًا بقوله إن الحرب الإقليمية التي ستُهزم إسرائيل فيها هزيمةً ساحقةً ستندلع إما قبل زيارة بايدن أو بعدها على أبعد تقدير، وخفف توقعاته بالحرب بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان ولقائه بالقادة اللبنانيين، وخصوصًا قادة حزب الله، عبر حديثه عن إمكانية الحرب، وليس حتميتها كما فعل دائمًا.
لم تندلع الحرب الإقليمية الإسرائيلية الإيرانية خلال عشرات السنين الماضية؛ ولن تندلع على الأرجح؛ لأن الخطر الإيراني على إسرائيل ليس وجوديًا، على الرغم من أنه على رأس المخاطر التي تهددها، والعكس صحيح؛ أي الخطر الإسرائيلي على إيران ليس وجوديًا، بل هو ضارة يترتب عليها بعض الفوائد؛ حيث مكّن طهران من استخدامه لمد نفوذها في المنطقة. يضاف إلى ذلك أن الطرفين غير مستعدين للحرب؛ ذلك لأن نتائجها غير مضمونة ولا محسومة، فمن شبه المؤكد أن لا منتصر فيها، بل ستكون حربًا مكلفة ومدمرة للجانبين، ولبلدان المنطقة، ولتداعياتها الكبيرة على المنطقة والعالم، خصوصًا بعد الحرب الأوكرانية. فالعالم لا يحتمل حربًا أخرى يمكن أن تزيد احتمالات نشوب حرب عالمية، وتشعل الأسعار، وتمس الأمن الغذائي، وربما تسبب انهيارًا للاقتصاد العالمي، ولبقايا النظام الدولي.
ما سبق لا يعني عدم توقّع حصول مواجهات عسكرية، أو حروب بالوكالة، أو استمرار الحرب بين الحروب، التي تستمر من خلال الضربات الإسرائيلية المستمرة لأهداف سورية وإيرانية في سوريا، وتنفيذ عمليات اغتيال وعمليات خاصة في إيران، وردود إيران عليها في دول المنطقة، خصوصًا في العراق.
إذا لم يتم التوصل إلى الاتفاق النووي سيزيد التوتر، وترتفع فرص سيناريو المواجهة، وإذا تم التوقيع على الاتفاق سيخف التوتر كثيرًا، وسنشهد منافسة أهدأ، ومزيدًا من السيولة والتغيير في علاقات دول المنطقة؛ حيث يطوّع الأعداء والخصوم علاقاتهم مع بعضهم، مثلما حصل في العلاقات الخليجية مع إيران وسوريا، والعلاقات التركية مع الدول الخليجية وإسرائيل، واحتمال تطبيعها مع مصر وسوريا، وسينعكس ذلك على الفلسطينيين بشكل سلبي باستمرار السعي لتهميش القضية الفلسطينية، وقد يشجع على استئناف التحرك السياسي لجس النبض حول فرص إطلاق عملية مفاوضات تهدف ليس إلى إطلاق عملية سلام، وإنما إلى اتفاق أو تفاهمات تكرس الوقائع والحقائق التي خلقتها سلطات الاحتلال على أرض الواقع، في فلسطين والمنطقة، وتضييق الحلقة التي تلتف حول الفلسطينيين أكثر لدفعهم لتجاوز موقفهم سواء الرسمي الحالي، رجل في النار ورجل في الجنة، أو موقف فصائل المقاومة المنحاز للمحور الذي تقوده إيران، وحسم الموقف الرسمي والصعود إلى قطار التطبيع العربي الذي ينطلق ويضم ركابًا جددًا، ويفعّل دور وعلاقات الركاب القدامى من دون ربطه بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
ويظهر تغيّر موقف السلطة في تسليم الرصاصة التي قتلت شيرين أبو عاقلة، وسط أنباء عن مقايضة يتم فيها إعطاء ما يمكن إعطاؤه للفلسطينيين من خطوات "بناء الثقة"، مثل تهدئة الوضع عبر تخفيف الاغتيالات والاقتحامات وهدم المنازل والاعتداء على الأقصى، والحفاظ على الهدوء على جبهة قطاع غزة، ووعد بمنح الموافقة على تشغيل الجيل الرابع من الاتصالات (4G) في أراضي السلطة، والسماح بوجود رمزي للسلطة على معبر الكرامة، من دون توقع خطوات دراماتيكية إسرائيلية مقابل تسليم الرصاصة التي اغتالت شيرين أبو عاقلة إلى الجانب الإسرائيلي عن طريق الأميركيين، كما حصل فعلًا، وزيادة فاعلية أجهزة الأمن الفلسطينية في مناطق (أ) و(ب)، ووقف ملاحقة إسرائيل على جريمتها باغتيال شيرين، خلافًا للموقف السابق للسلطة الذي رفض تسليم الرصاصة، وطالب أيضًا بتسليم قطعة السلاح الإسرائيلية التي استخدمها جندي الاحتلال.
كما رفض الفلسطينيون الاشتراك مع إسرائيل في التحقيق؛ لأن المجرم لا يحقق بجريمته، كما سبق أن رفضت السلطة حتى التحقيق الدولي، وهذا التراجع يندرج تحت بند التعاطي الرسمي الفلسطيني المعتاد الذي يقبل في النهاية ما سبق أن رفضه، في ظل استمرار التعاون الأمني والتبعية الاقتصادية، على الرغم من استمرار الاحتلال بعمليات المصادرة والتهويد والاستيطان والتمييز العنصري والعدوان والضم الزاحف، مقابل فتات وتسهيلات اقتصادية، وخطوات بناء الثقة، وعودة المساعدات الأوروبية والأميركية، والوعود بأفق سياسي وليس بعملية سياسية؛ حيث بات سقف الموقف الفلسطيني تنفيذ الوعود الأميركية التي قطعتها إدارة بايدن، وفتح أفق سياسي وليس إطلاق عملية سياسية جادة مرجعيتها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بوصفها مرجعيةً ملزمةً لأي مفاوضات، بهدف التوصل إلى حل سياسي ينهي الاحتلال، ويجسد استقلال دولة فلسطين.
اختارت القيادةُ الرسميةُ، بحكم البنية التي أوجدتها، والمصالح والعلاقات والارتباطات المترتبة عليها؛ التعامل مع الأمر الواقع والتعايش معه، حتى يتغير، وهو لن يتغير، بل يتكرس بهذه السياسة المتبعة، التي لا بد من تغييرها بشكل جذري، واتباع سياسة مغايرة، هدفها العمل والنضال الفاعل والجدي والمثابر لتغيير الواقع، وليس انتظار أن يتغير من تلقاء نفسه وبفعل الآخرين.
كل ذلك يحدث بينما يواصل الرئيس الفلسطيني تهديداته بأن الوضع غير قابل للاحتمال ولا للاستمرار، وبأنه يدرس واللجنة التنفيذية للمنظمة، التي باتت هيئة استشارية، تنفيذ القرارات التي اتخذها المجلسان المركزي والوطني بخصوص العلاقة مع دولة الاحتلال، وإنهاء الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، التي تأجلت إلى ما بعد زيارة بايدن، ولكن التجربة السابقة وما يجري على الأرض من سياسات وإجراءات يدل على أنها ستبقى مجرد تهديدات لفظية فارغة، "فالأثر يدلّ على المسير"، و"لو بدها تشتي لغيمت".
لا بديل من حوار وطني شامل، تشارك فيه، في البداية، القوى والعناصر والجماعات المؤمنة بضرورة التغيير؛ من أجل التوصل إلى بلورة رؤية شاملة، وقيادة ذات إرادة، وإستراتيجيات جديدة تنبثق عنها خطط عملية، وتحملها أدوات مصممة على تحقيقها، وهذا غير متوفر حتى الآن، ولكن لا يجب اليأس، بل العمل من أجل توفيره.