بقلم / حسن لافي
لدى "إسرائيل" مشكلة جوهرية مع الحقيقة منذ نشأة الحركة الصهيونية؛ فروايتها التاريخية، وأفكارها المؤسّسة، واختلاقها السياسي، وشرعيتها الدينية والأخلاقية، بُنيت على الأسطورة وذاكرة تاريخية مفبركة وحق إلهي مزيّف. لذلك، من الطبيعي جداً أن تناصب "إسرائيل" العداء أيّ جهة أو مؤسّسة أو حتى أفراد يسعون إلى تقديم الحقيقة وتفنيد الروايات المؤسّسة للفكرة الصهيونية، لكون الحقيقة بالنسبة إلى "إسرائيل" خطراً وجودياً على كينونتها كمشروع استعماري إحلالي استيطاني في المنطقة العربية والإسلامية.
ما سبق يُؤصِّل لجوهر العلاقة العدائية بين "إسرائيل" وبين الصحافة والإعلام الوطني والإنساني، الباحث عن الحقيقة التي مثلتها خير تمثيل الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة. فـ"إسرائيل" الباحثة عن صناعة الكذب والتضليل الإعلامي، وتزييف الواقع، وإعادة صياغة الأحداث بمؤثرات وأساليب تخدم مصالحها وأجنداتها ككيان استيطاني عنصري، من أجل الوصول إلى حالة عامة من كيّ الوعي الجماعي داخلياً وخارجياً، بالتأكيد ستتعامل مع شيرين أبو عاقلة الصحافية الساعية دوماً إلى تقديم خطاب الحقيقة، على أنها تهديد أمني وعسكري وفكري على دولة الاحتلال يجب اغتياله، لخدمة المصلحة العليا الإسرائيلية ودوام بقاء خطابها المزيف من دون أيّ منغّصات تفضح بشاعة الوجه الحقيقي للاحتلال الإسرائيلي.
كشفت عملية اغتيال الصحافية أبو عاقلة، وما تلاها من اعتداء غير إنساني من قبل الشرطة الإسرائيلية على جنازتها، وإسقاط نعشها، ومهاجمة مشيّعيها، أمام مرأى العالم أجمع ومسمعه، مروراً بحفنة من الروايات الإسرائيلية المرتبكة حول تفاصيل عملية الاغتيال، أن هناك مجموعة من المسائل ترتكز عليها "إسرائيل" في محاولاتها الدائمة لإسكات صوت الحقيقة الفلسطيني، أهمها:
أولاً، شرعنة الجريمة الإسرائيلية مهما كانت بشاعتها
اعتادت "إسرائيل" (دولة اليهود) أن تلعب دور الضحية على مدار التاريخ، من خلال تقديم رواية للأحداث مبتورة، من دون مراعاة للسياقات الزمنية لتطور الحدث نفسه. بمعنى توضيحي، أن بداية السردية الإسرائيلية لأي حدث تبدأ من ردّ الفعل الفلسطيني تجاه "إسرائيل"، من دون ذكر لطبيعة الفعل الإسرائيلي المنشِئ للحدث نفسه، والذي أتى الفعل الفلسطيني في سياق ردّ الفعل عليه، فبالتالي تتكرس فكرة القفز عن الجريمة الصهيونية من خلال التركيز على ردّ فعل الفلسطيني تجاه تلك الجرائم، وبذلك يتحول صراخ الضحية المغتصبة إلى جريمة، لأنه يزعج الاحتلال الغاصب، المستمر في ممارسة وحشيته على شعب اقتُلع من أرضه منذ 74 عاماً.
وبناءً على المنطق الإسرائيلي المريض بالفوقية العنصرية، فإن المسؤول عن مقتل شيرين أبو عاقلة، هو إما الفدائيون الفلسطينيون الذين دافعوا عن مخيمهم من بطش الاحتلال، وإما شيرين أبو عاقلة نفسها التي كانت تمارس عملها الصحافي في جنين في سبيل نقل صوت الحقيقة إلى العالم، ما يؤدي إلى عرقلة تمتّع جنود الجيش الإسرائيلي بساديتهم النازية، الذين من الطبيعي، كما صرّح بذلك عضو الكنيست الإسرائيلي "إيتمار بن غفير"، أن يطلقوا النار بغزارة، حتى ولو وُجِد بعض الصحافيين في المكان. وفي كل الأحوال، العقلية الصهيونية لن تحمّل جنود الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية عن اغتيال شيرين، حتى وإن اعترف الجنود الإسرائيليون بإطلاق النار، فستعتبرها الرواية الإسرائيلية مجرد خلل عملياتي فني من قبل الجنود بسبب وجود المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي يذكّرنا بالمقولة الشهيرة لرئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، حين قالت: "لن أسامح الفلسطينيين؛ لأنهم يجبرون جنودنا على قتلهم".
ثانياً، إدراك "إسرائيل" لأهمية دورالإعلام في الصراع
خوف "إسرائيل" الدائم من الحقيقة دفعها إلى الاهتمام بالساحة الإعلامية، كمجال أمني وعسكري، فنجد أن الحركة الصهيونية منذالبدايات اهتمت بالسيطرة والتأثير على وسائل الإعلام العالمية والإقليمية من أجل خلق تيار داعم لها، وتجميل صورتها الوحشية، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه مع بدايات تشكيل جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية سعى الأخير إلى التأثير على مواقف الصحافة العربية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى بين 1936-1939، من خلال تسليط الضوء على المقالات الصهيونية المدسوسة، والأخبار التي زرعتها الوكالة اليهودية، في الصحف العربية، حيث أثبتت دراسة للدكتور محمود محارب أنه خلال العامين الأخيرين من هذه الثورة، زرع جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية للوكالة اليهودية ما لا يقل عن 280 مقالاً مدسوساً في الصحف اللبنانية والسورية، وبطرق تخفي اسم كاتبها الحقيقي. بمعنى آخر، إن استراتيجية التضليل الإعلامية الهادفة إلى إسكات صوت الحقيقة من خلال تشغيل آلة التضليل الإعلامي ليست جديدة على "إسرائيل".
في ظل تطور الوسائل الإعلامية وسهولة انتشارها، ومع دخول الإعلام مرحلة البث المباشر للأحداث فور حدوثها، لجأت "إسرائيل" إلى استراتيجية الإرهاب تجاه الصحافيين والإعلاميين لمنع تدفق الحقيقة الفلسطينية إلى العالم. وفي هذا الاتجاه، ما فتئت "إسرائيل" تنفّذ سياسة تعتمد على العنف لدفع الصحافيين إلى منع استمرار التغطية الإعلامية المواكبة للمجازر الاسرائيلية، لذلك ليس من المستغرب على "إسرائيل" أن تقتل ما نحو 46 صحافياً منذ عام 2000، وتعتدي على أكثر من 144 صحافياً، فلسطينياً وأجنبياً، خلال تغطيتهم الأحداث في فلسطين المحتلة خلال السنوات الأربع الأخيرة، بحسب تقرير لمنظَّمة "مراسلون بلا حدود"، فضلاً عن قصف مقارّ المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية، كما حدث العام الماضي عند قصف برج الجلاء الذي يوجد فيه مقر وكالة الأنباء الأميركية "أسوشييتد برس" ومكتب الجزيرة في غزة.
إن تنامي دور مواقع التواصل الاجتماعي وتحولها إلى منصات دولية من السهل عليها إيصال صوت الحقيقة الفلسطينية لكل العالم، أدّيا إلى زيادة الاهتمام الأمني الإسرائيلي للسيطرة الإعلامية على تلك المواقع، وخاصة مع ازدياد وزن الدبلوماسية الشعبية ودورها الضاغط على صنّاع القرار وصياغة المزاج الشعبي تجاه مجمل القضايا، بما فيها الموقف من الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي باتت تتلمّس "إسرائيل" خطورته على صورتها وشعبيتها ومصداقية روايتها الدعائية وخاصة في المجتمع الغربي، وبالتالي شرعت "إسرائيل" في التواصل مع شركات مواقع التواصل الاجتماعي من أجل دعم المحتوى الإسرائيلي وروايته المزيفة من جهة ومحاربة المحتوى الفلسطيني الذي باتت تتعامل معه بروتوكولات تلك الشركات تحت ضغط اللوبي الصهيوني على أنه مخالف لمعايير المجتمع، ويحرّض على الدعوة إلى الكراهية والعنصرية والعنف، فتتحول كتابة كلمة "مقاومة فلسطينية" مثلاً أو كلمة "شهيد" إلى سبب لتقييد أي حساب فلسطيني على الكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المحصّلة تغيب المحتويات التي تعكس حقيقة الأحداث في الأراضي الفلسطينية عن مواقع التواصل الاجتماع، ويبقى المحتوى الإسرائيلي بروايته المفبركة المتصدّر لتلك المواقع.
استشهاد شيرين أبو عاقلة يؤكد أن الحقيقة لا تموت ولكنها حتماً ستنتصر، الأمر الذي يفرض على الكل الفلسطيني وعلى أحرار العالم أجمع، خوض معركة الحقيقة ونشر الرواية الفلسطينية ودحض الأكاذيب الإسرائيلية، من أجل كشف عورة الاحتلال، وعنصرية المؤسسات والجهات الدولية الداعمة له، والأهم شرعنة نضالات الشعب الفلسطيني بوسائله كافة، في معركته المستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي.