د, يوسف مكي
بلغ الصراع الروسي- الغربي، من خلال الأزمة الأوكرانية، حدا غير مسبوق، منذ انتهاء الحرب الباردة، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وقد برز دور الدعاية الغربية، في التحريض ضد روسيا الاتحادية، والاتهامات المتبادلة بين الغرماء، أشكالا فاقت كل تصور، لدرجة دفعت الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، وهو الحليف للغرب، إلى اتهام حلفائه بتغذية الخوف والهلع من حرب روسية على بلاده. لقد أدى التسعير الغربي للحرب الإعلامية على روسيا، إلى الإضرار بالاقتصاد الأوكراني، مما تسبب في خسارة مئات ملايين الدولارات، وجعل العملة الأوكرانية تهبط بمعدل 8% مقابل الدولار منذ بدء الأزمة، وفقا لتصريحات الرئيس الأوكراني. إن الحشود العسكرية الروسية على بلاده ليست جديدة، وإنما الجديد هو موقف الغرب منها.
السؤال الذي نحاول الإجابة عليه، والذي تصدر هذا الحديث: هل سيشهد العالم، في الأيام القادمة حربا
روسية على أوكرانيا، أم أن الضجيج الذي يجري حول الأزمة، يتم لأسباب أخرى؟.
والقراءة المتأنية للمتغيرات في موازين القوى الدولية، الذي حدث بشكل تصاعدي، لصالح روسيا والصين، وهلع أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، من هذا التغيير، توضح أن الخلاف الأوكراني- الروسي، رغم أنه، محور الأزمة الراهنة، إلا أن الأزمة في جوهرها هي استمرار للصراع الدائر الآن بين روسيا وامريكا، من أجل تأكيد تفوقهما السياسي والعسكري على الصعيد الدولي، واكتساب مواقع نفوذ.
فالأمريكيون، ومعهم غالبية أعضاء حلف الناتو، يعملون على توسيع الحلف، ليشمل دولا كانت حتى وقت قريب، تابعة للاتحاد السوفييتي السابق، وإن لم يتمكن الغرب من تحقيق ذلك، فإن بديلهم، هو إقامة قواعد عسكرية للحلف على الأراضي الأوكرانية. وفي الحالتين، فإن ذلك يشكل تهديدا ماثلا للأمن القومي الروسي.
تدرك روسيا جيدا، مخاطر التمدد العسكري الغربي، وتسعى جاهدة إلى لجمه، ملوحة باستخدام القوة العسكرية، لمنع الغرب من تنفيذ أجنداته، في الحديقة الخلفية الروسية. في هذا الصدد، نشرت الخارجية الروسية نص رسالة بعثها الوزير سيرغي لافروف، في 28 يناير إلى وزراء خارجية الولايات المتحدة وكندا وعدد من الدول الأوروبية، أشار فيها فيها إلى عدم عدم جواز تجزئة الأمن. ودعا إلى فهم مشترك لمبدأ الأمن المتكافئ، غير القابل للتجزئة، كأساس لهيكل الأمن الأوروبي بأكمله، يحدد الحقوق والالتزامات الأساسية للدول، والتزام كل دولة بعدم تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين. وفي الرسالة ذاتها، يشير لافروف أن الغرب يتجاهل المبدأ الأساسي للأمن، ويغض النظر عن الوثائق التي لا تسمح بتعزيز أمن الغرب على حساب الدول الأخرى.
التدخل العسكري الروسي، في أوكرانيا، إذا مرتبط بنوايا حلف الناتو، والانتشار العسكري فيها، وليس ضمن الاستراتيجية الروسية، إلا في حالة تهديد أمنها القومي، بما يضع هذا التدخل في حالة الدفاع عن النفس.
إن الأدبيات السياسية الروسية، تشبه ما يجري حاليا من صراع على أوكرانيا، بأزمة الصواريخ الكوبية، ونتائجها، التي حالت دون قيام الولايات المتحدة بغزو كوبا. بمعنى أن الأزمة الأوكرانية الراهنة، تنتهي بتراجع الغرب عن التمسدد العسكري، في الجمهوريات السوفييتة السابقة، ومن ضمنها أوكرانيا.
الحكومة الروسية لا تخفي تعاطفها ودعمهما، للحركة الإنفصالية في دمباس، التي ينطق غالبية سكانها اللغة الروسية. وتدين ما تصفه بالنهضج العصري لحكومة أوكرانيا، تجاه هذا الإقليم. وتؤيد علنا حصول الإقليم على الحكم الذاتي.
الغرب من جانبه، يتمسك بحقه في الانتشار العسكري، بعموم القارة الأوروبية، من غير استثناء. ويستخدم في تمسكه هذا بالقانون الدولي، وبحق الدول في رسم سياساتها الداخلية، والخارجية من غير ضغوط من الخارج. ويعتبر الموقف الروسي، تجاوزا على حق الشعوب في تقرير المصير، وتدخلا سافرا في شؤون دولة ستقلة.
الوضع الراهن، لن يستمر طويلا، فالتجارب السابقة، أثبتت أن الغرب، يتراجع عن مواقفه، متى ما تعلق الأمر، بالمواقع الاستراتيجية لغرمائه. حدث ذلك عدة مرات، تجاه دعم الغرب لتيوان أمام التهديد الصيني، وأتناء ضم شبه جزيرة القرم لروسيا. وحدث ذلك في جورجيا وكازاخستان، وليس هناك ما يؤكد على تمسك الغرب بموقفه، أمام صلابة الموقف الروسي.
روسيا من جانبها، تفضل أن يبقى الأمر على حاله، في حال تراجع الغرب عن التمدد العسكري، إلى أوكرانيا. ومن مصلحتها أن بيقى اقليم دمباس تابعا لأوكرانيا، لأن فوائد ذلك تفوق كثيرا فوائد ضمه لأراضيها. إن ضم دمباس للأراضي الروسية، سيعرض الأخيرة لحصار اقتصادي وعزلة دولية، ويحرمها من منطقة نفوذ داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما لا يخدم مصالحها، وما لا ترغب فيه.