خلصت منظّمة العفو الدولية "أمنيستي" إلى "أنَّ مصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية على نطاق واسع، وعمليات القتل غير المشروع، والتهجير القسري، والقيود الصارمة على الحركة، وحرمان الفلسطينيين من حقوق الجنسية والمواطنة.. هي مكوّنات نظام عنصري تمييزي يرقى إلى جريمة ضدّ الإنسانية بموجب القانون الدولي".
وفصّلت "أمنيستي" الممارسات الإسرائيلية العنصرية تجاه الفلسطينيين في تقرير بحثي شامل بعنوان "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية".
يعيدنا تقرير "أمنيستي" إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379، الذي اعتُمد في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975م، والذي حدّد "أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وطالب جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي تشكّل خطراً على الأمن والسلم العالميين، بحسب ما جاء فيه.
ورغم إلغاء القرار في العام 1991، فإنَّ أهميته تكمن في كونه أشار إلى مصدر العنصرية الأساس في المشروع الصهيوني، وهو الفكرة الصّهيونية ذاتها كأيدلوجية حاكمة وعقيدة ناظمة للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للحركة الصهيونية و"دولة" الاحتلال. وبالتالي، إنَّ المشروع الصهيوني، بشقّيه الفكري والمؤسساتي، عنصري بامتياز.
في هذا المقال، لن أناقش الأبعاد الفكرية للديمقراطية وتعارضها الرئيسي مع الفكرة الصهيونية المبنية على تفضيل جماعة معيّنة، بناءً على دين وعرق (شعب الله المختار)، على بقيّة الجماعات الإنسانيّة الأخرى (الغوييم)، ولكن سنطرح التساؤل التالي: هل يمكن وجود مؤسسات ديمقراطية فعلياً داخل النظام السياسي الإسرائيلي الصهيوني، كما صرح وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، في سياق دفاعه عن الكيان الإسرائيلي في وجه تقرير "أمنيستي": "نحن لسنا دولة مثالية، لكننا نلتزم بالقانون الدولي، ونحن منفتحون على النقد، ولدينا صحافة حرة ومحكمة عليا"؟
تعتبر المحكمة العليا الإسرائيلية صاحبة أعلى قرار قضائي في "إسرائيل"، وتملك صلاحيات نقض أيّ قرار قضائي صادر عن أي محكمة إسرائيلية، بل أكثر من ذلك، تملك القدرة على إبطال التشريعات إذا تعارضت مع قوانين أساس الكنيست، ولكن كلَّ هذه الصلاحيات القانونية والقضائية الممنوحة لها تجعلها جزءاً أساسياً من المنظومة الصهيونية التي تكرّس مبدأ الفوقية اليهودية كهُوية دستورية للنظام الإسرائيلي.
لا يمكن النّظر إلى المحكمة العليا الإسرائيلية خارج الدور الاستعماري الكولونيالي الإحلالي للنظام السياسي الإسرائيلي الصهيوني، فهي تؤدي دوراً في قوننة الممارسات العنصرية الإسرائيلية تجاه كلّ ما هو فلسطيني، من خلال استخدامها ديباجات قانونية وتفسيرات غريبة لنصوص القانون الدولي، إضافةً إلى توفيرها مساحة قانونية مرنة أمام الكنيست لسنِّ قوانين تشرعن الفوقية اليهودية، ناهيك بمساندتها الحكومة الإسرائيلية في تأويل نصوص الاتفاقيات الدولية وتفسيرها بما يتناسب مع البنية الاستعمارية لكيان الاحتلال.
أقرَّت المحكمة العليا الإسرائيلية قانون أساس القومية اليهودية، الذي ينصّ صراحةً على أن "ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي"، بمعنى أنَّ هذا القانون يأخذ ما يسميه "حقوق اليهود" في شتى أنحاء العالم حدّ الإشباع، ولا يبقي للفلسطيني شيئاً، ولا حتى الفتات.
وبالتالي، هذه المحكمة تصادق فعلياً على ترسيخ الفوقية الإثنية اليهودية والفصل العنصري كمبادئ تأسيسية للنظام الإسرائيلي، حتى في الحالات التي تقف فيها ضد هدم بيت فلسطيني من قبل "الجيش" الإسرائيلي أو الحكومة الإسرائيلية، فهي تسعى للحفاظ على سلامة الإجراءات القانونية الاستيطانية، بمعنى أنَّها تقف مع القوانين الاستيطانية، وليس مع الحقّ الفلسطينيّ، وبالتالي تقونن جوهر الهدم كسياسة إسرائيليّة بعيدة عن حقّ الفلسطيني في المسكن، بصفته مواطناً في هذه الأرض.
تعتبر الصحافة الإسرائيلية صحافة مجنَّدة في خدمة الأهداف الصهيونية، وتختفي كلّ معالم حرية الرأي والنقد الذاتي وكل القيم الديمقراطية عندما يتعلّق الأمر بالفلسطيني. وأكثر من ذلك، هناك العديد من أدوات السيطرة الصهيونية على الصحافة والإعلام الإسرائيلي، من أهمها الرقابة العسكرية الموجودة في كل وسيلة إعلامية، والتي يجب أن توافق على النشر، والأهم أنها تتدخّل في صياغة أيّ خبر مرتبط بالفلسطيني، لكونه قضية أمنية.
أضِف إلى ذلك أنّ الصحافيين الإسرائيليين هم في الأساس أبناء الصهيونية، وخدموا في "الجيش" الإسرائيلي، ويملكون الدوافع الكافية لحجب المعلومات التي تكشف بشاعة المشروع الصهيوني، وبالتالي تلتقي الدوافع الداخلية مع الضغوطات الخارجية على الإعلام الإسرائيلي، ليصبح أداة من أدوات المنظومة الاحتلالية الكولونيالية العنصرية.
وتتجلّى عنصرية هذا الإعلام في أنه حوَّل الفلسطيني إلى رقم وشيء مجهول الاسم، وكأنّه يكرّس في الوعي الجمعي الصهيوني أنّ الفلسطيني نكرة (غوييم) لا حضور له في الواقع، وأنَّ مصيره الاقتلاع والطرد من هذه الأرض، فعن أيِّ مؤسسات ديمقراطية يتحدث لابيد؟!