منير شفيق
أصدرت القمة العربية المنعقدة في الرباط عام 1974 قراراً يقضي باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وقد لعب أنور السادات الدور الرئيس في الضغط لإصدار ذلك القرار، وقد أصرّ ياسر عرفات على إضافة الواو قبل الوحيد، وذلك لإغلاق الباب تماماً في وجه كل من يقترب من ادّعاء التمثيل، أو البت في مصير فلسطين أو القضية الفلسطينية.
ومنذ ذلك القرار أصبح من المحرّمات الاقتراب منه تشكيكاً أو تعديلاً، أو ممارسة. ولم يعد حتى مسموحاً أن يناقش في الداخل الفلسطيني، أو في أروقة منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بالرغم من مخالفته لميثاق م.ت.ف 1964، كما لميثاق 1968، كما أنه مخالف للقرارات العربية التي اعتبرت القضية الفلسطينية قضية عربية، بل القضية المركزية للدول العربية.
من يتأمل القرار جيداً سيكتشف أنه مناقض لبدهية تاريخية وواقعية ومبدئية فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وحتى "أممياً" (أحرار العالم بالنسبة إلى البعض). فالفلسطينيون منذ تشكل القضية الفلسطينية اعتبروها أيضاً قضية عربية وإسلامية، وكذلك بالنسبة للموقف العربي بإجماع، كما إصرار العلماء والحركات والشعوب الإسلامية على اعتبارها قضية إسلامية أساساً.
الهدف الساداتي من وراء هذا القرار هو التخلي عن الالتزام بتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقد أصبح لها ممثل شرعي ووحيد للبت فيها، أو مسؤولا عنها، وذلك ليذهب إلى التفاوض مع الكيان الصهيوني حول سيناء، واستعادتها لمصر، ولو مقابل معاهدة "صلح وسلام"
بداية، يجب التأكيد على أن الهدف الساداتي من وراء هذا القرار هو التخلي عن الالتزام بتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وقد أصبح لها ممثل شرعي ووحيد للبت فيها، أو مسؤولا عنها، وذلك ليذهب إلى التفاوض مع الكيان الصهيوني حول سيناء، واستعادتها لمصر، ولو مقابل معاهدة "صلح وسلام"، والخروج من الصراع مع الكيان الصهيوني. وهذا الذي حدث فعلاً، مستفيداً من القرار العتيد، وحتى مستنداً إليه. وقد دعا في أول جولة في المفاوضات منظمة التحرير للمشاركة باسم الشعب الفلسطيني، وبصفتها ممثلة للأراضي المحتلة.
بهذا يتضح أن القرار كان من جانب عدد من الدول العربية، في حينه، "محرِّراً" لها من مسؤوليتها العربية والقُطرية المباشرة عن قضية فلسطين. وقد أصبحت مسؤولية خالصة لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ صاحبة القرار التمثيلي الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ثم لينتقل الشعار، بعد أن ذهبت منظمة التحرير إلى طريق التسوية والتنازلات الفاجعة حتى بالرغم من كارثية اتفاق أوسلو، إلى شعار يقول "نرضى بما يرضى به الفلسطينيون" (قيادةم.ت.ف)، الأمر الذي يعني أن م.ت.ف أصبحت الغطاء للتنازلات: فمن ذا الذي يريد أن يكون "ملكياً أكثر من الملك"؟
في البداية في العام 1974، سوّغ الكثيرون اتخاذ هذا القرار بأنه جعل القضية الفلسطينية بأيدي أبنائها المؤتمنين عليها، والذين لا يفرّطون، ولا يساومون، ولا يبيعون ويشترون، كما هو الحال مع الأنظمة العربية. ولكن الوقائع أثبتت أن ذلك التسويغ، أو التقدير، كان خاطئاً بعد المسار الذي اتخذته قيادة م.ت.ف (قيادة فتح بالدرجة الأولى)، على طريق التسوية وصولاً إلى اتفاق أوسلو، بل - ويا للهول - وصولاً إلى التنسيق الأمني.
القرار كان من جانب عدد من الدول العربية، في حينه، "محرِّراً" لها من مسؤوليتها العربية والقُطرية المباشرة عن قضية فلسطين. وقد أصبحت مسؤولية خالصة لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ صاحبة القرار التمثيلي الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني
أثبتت الوقائع أن قيادة م.ت.ف ومجالسها الوطنية، أكثر جرأة على تقديم التنازلات من الأنظمة العربية، أو بعضها، حتى لو رغبت في الإقدام عليها، ولكنها تخاف من أن "يُشل عرضها"، فيما "النظام الفلسطيني" قراراته جريئة، ولا يقدم عليها إلاّ شجاع مغوار".
والآن، نأتي لمناقشة الفلسطينيين الذين أصروا على حقهم بالاستفراد في تقرير مصير القضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني، وأمامهم الأسئلة التالية:
أولاً: من أعطى لكم الحق باعتبار القضية الفلسطينية قضية فلسطينية ونقطة على السطر، وليست عربية أولاً وإسلامية ثانياً؟ وهل تدركون هنا أنكم نقضتم تاريخ الآباء والأجداد، وتناقضتم مع ميثاقي 1964 و1968، ومع حق الشعب الفلسطيني بكل فلسطين، من النهر إلى البحر. هذا، وتناقضتم أيضاً مع بدهيات الاستراتيجية المتعلقة بتحرير فلسطين من ناحية موازين القوى، فالعدو الصهيوني عدو عالمي، ويمتلك من القوى العسكرية والتأييد، ما يحتاج إلى أن يتوازن، ويُواجَه بالأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم.
ليس هنالك من حق لأي جيل فلسطيني إعطاء شرعية للاحتلال والاغتصاب، والاقتلاع، والإحلال، مهما كانت موازين القوى ضده، ومهما بلغ التآمر واشتدت الأخطار عليه، وإن فعل فلا يبقى شرعياً من حيث أتى
ثانياً: ألا تعلمون أن من حقكم، فقط، أن تحرّروا فلسطين كاملة إذا استطعتم، أي من حقكم ومن واجبكم أن تقاوموا، وتقاوموا، جيلاً بعد جيل على هذا الطريق، ومن أجل هذا الهدف، ولكن ليس من حقكم أن تتنازلوا عن أيّ شبر من أرض فلسطين؛ ليس لأنكم ستهضمون حقاً عربياً وإسلامياً فحسب، وإنما أيضاً ستهضمون حقاً فلسطينياً يخصّ الأجيال الفلسطينية القادمة؟ إذ ليس من حق أيّ فلسطيني أن يتنازل عن أيّ جزء منها للعدو المغتصِب، فالوطن - كل وطن - هو بمثابة أرض موقوفة على الأجيال القائمة، والأجيال الآتية، فلا يحق لأيّ من الأجيال أن يبيعه، أو يقسمه، فعليه أن يسلمه للأجيال التي تليه إما حراً بالكامل، وإما كما هو الحال بالنسبة لفلسطين؛ ألاّ يعطي أيّ جيل فلسطيني للعدو المغتصب أيّة شرعية وجود على أرض فلسطين، حتى لو لم يستطع جيل أو أكثر تحريرها بالكامل، فعليه أن يبقيها حقاً شرعياً كاملاً لمن بعده. وبهذا يبقى مغتصبها فاقداً للشرعية، مهما طال الزمن.
وبكلمة، ليس هنالك من حق لأي جيل فلسطيني إعطاء شرعية للاحتلال والاغتصاب، والاقتلاع، والإحلال، مهما كانت موازين القوى ضده، ومهما بلغ التآمر واشتدت الأخطار عليه، وإن فعل فلا يبقى شرعياً من حيث أتى.
وفي الختام، عمر القضية الفلسطينية 105 سنوات، وقد مرت بها ثلاثة أو أربعة أجيال، ولم يخذلها ويخل بالعهد غير بعض جيل وقعوا اتفاق أوسلو وتبعوه، فيما البعض الآخر (الغالبية) ما زالوا على العهد، وهم من سطروا ملحمة الانتفاضة وسيف القدس، ومن أيّدها من ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم. وبهذا حوفظ على مسيرة أجيال فأجيال، ويبقى الالتزام بها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، ويسوء وجه السادات ومن اتبّع نهجه إلى آخر الدهر.