أخيراً.. ما كان يبدو بالأمس مستحيلاً أضحى حقيقة واقعة اليوم، ويمكن القول أن مسير الألف ميل للمصالحة الوطنية الفلسطينية قد بدأ بالخطوة العملية الأولى بعد السنوات السبع العجاف هي عمر الإنقسام المدّمر الذي أنهك المجتمع الفلسطيني وحملـّه أثقالاً تنوء بها الجبال لِما له من انعكسات كارثية خطيرة كادت أن تصيب صميم المشروع الوطني بمقتل،
فاقت أثاره كل ما تعرّضت له القضية الفلسطينية من محاولات شطب الهوية وتدجين الإرادة الوطنية المستقلة وعدوان الإحتلال على مدى سنوات الصراع، لذلك كان لابد من أن ينتصر صوت العقل والمنطق وتـُستعاد وحدة الأرض والشعب وتوحيد الجهود في إطارٍ جامع حتى لو جاء متأخراً بعض الشيء "كشكلٍ من أشكال الإستدراك التاريخي" كما وصفه السيد اسماعيل هنيه الذي ساهم بشكل فاعل بإنجاح اتفاق مخيم الشاطى ءالتنفيذي أثناء خطابه الوداعي، بالتالي فالوحدة الوطنية شرط ضروري حتمي لمواجهة أعتى مشروع كولونيالي عنصري عرفه التاريخ المعاصر، إن هذا الإنجاز الحزيراني سيشكـّل علامة فارقة تختزنها الذاكرة لارتباطه بإنهاء صفحة أحد المأساتين المؤلمتين للعرب عموما وللفلسطينيين على وجه الخصوص كمقدمة لاسترجاع الأراضي العربية المحتلة بعد الهزيمة الحزيرانية المنكرة التي تصادف ذكراها هذه الأيام.
خطوة تشكيل حكومة التكنوقراط أو الكفاءات المؤقتة التي أسندت رئاستها للسيد رامي الحمد الله وأدّت اليمين القانونية أمام الرئيس الفلسطيني ليست نهاية المطاف إنها البداية لخارطة طريق عمل شاق تحتاج إلى جهود مضنية وأدوات استثنائية تعالج كافة الأثار المترتبة على سنوات الإنقسام والحصار الجائر على قطاع غزة ضمن إطار المهام الموكلة إليها بدءا من إعادة مادمره العدوان على قطاع غزة مروراً بملف المصالحة المجتمعية وتوحيد المؤسسات المدنية انتهاءً بالملـّف الأمني الأكثر تعقيداً مما يعتقده البعض، ثم الإنتقال إلى المرحلة الثانية ذات الصلة بإعادة تطوير وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية بما يضمن الشراكة الجمعية وتكافؤ الفرص ورسم سياسة استراتيجية وطنية تدرء المخاطر وتستنبط الوسائل الكفيلة التي من شأنها التصدي لعدوان الإحتلال الشامل ومشاريعه التوسعية الرامية إلى تقزيم الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وأيضاً الذهاب إلى الإنتخابات العامة التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني الفلسطيني على أساس التمثيل النسبي الكامل الذي يضمن مشاركة الجميع في مرحلة التحرر الوطني بعد الإجابات عن الأسئلة الجوهرية في ظل ارتقاء الوضع الفلسطيني من واقع السلطة إلى واقع تجسيد الدولة مايجعل التساؤل مشروعاً عن امكانية قدرة الحكومة المناط بها كل هذه الملفات الشائكة تحقيق الإنتخابات في موعدها خلال مدة الستة أشهر المحددة الذي اتفقت عليها جميع الأطراف فضلاً عن عوامل عرقلة الإحتلال لعملية المصالحة.
لاشك أن العقبات في طريق المصالحة كثيرة خاصة أن الضرورات لا القناعات فرضت احكامها كمخرج ٍمن الأزمات المتفاقمة الراهنة التي عكستها المتغيرات العربية والأقليمية والدولية من جهة، وانسداد الأفق التسووي التفاوضي من جهة أخرى بعد تنكر حكومة الإحتلال لإطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى القدامى في شهر نيسان الماضي، وبالتالي هناك دائماً خشية من تمترس بعض الأصوات وراء الأنانية التنظيمية المتشنجة ربما تؤدي الى التعطيل والمماطلة كما أظهرت مؤشرات تشكيل حكومة التوافق الحالية مع أنها مؤقتة زمنياً ولها وظائف محددة حيث لاينبغي الوقوف أمام تفاصيل ثانوية يمكن حلها بالحوار الداخلي إن كان هناك حرص حقيقي على استكمال مسيرة المصالحة بنجاح نحو شاطيء الأمان، إذ لابد أن يكون على رأس سلم الأولويات العاجلة صياغة ميثاق شرف مُحصّن قانونياً ينقل مناخ المصالحة من المتحرك إلى الثابت كي يصبح ثقافة وطنية دائمة تحرّم بل تجرّم اللجوء إلى الأساليب غير الديمقراطية في حل الخلافات داخل الأطر الفلسطينية بعيداً عن المزايدات والتوظيف السياسي لغرض تسجيل المواقف التي تعكـّر صفو ولادة اللحظة المبهجة عبر وسائل الإعلام المختلفة أو استعجال قطف ثمار المصالحة بشكل فوري وكأن كل شيءٍ سيتبدّل فور تشكيل الحكومة خاصة مايتعلق منها بفتح معبر رفح البري وقضايا الحريات العامة على أهمية هذه المواضيع وضرورة حلـّها.
من الواضح أن المصالحة أفقدت حكومة الإحتلال العنصري صوابها وخرجت عن طورها جراء التوصل إلى اتفاق ينهي حالة الإنقسام وراحت تهدد وتتوعد بعظائم الأمور في حال تشكيل حكومة التوافق الوطني من الكفاءات المستقلة غيرالفصائلية التي لاشأن لها بالمفاوضات أو إقرار السياسات على اعتبار أن ذلك الأمر من صلاحيات منظمة التحرير الفلسطينية، مايعني أن استعادة وحدة الشعب الفلسطيني خط أحمر إسرائيلي وتدخل سافر بالشؤون الداخلية الفلسطينية في سابقة غير معهودة تنـّم عن عقلية العصابات وأساليب البلطجة وإذا كان الأمر كذلك فمن الأجدى أن يضع الجانب الفلسطيني فيتو كبيرة على وزراء حكومة الإئتلاف اليمينية المتطرفة الذين يتنكر بعضهم لوجود الشعب الفلسطيني ويدعو الى سياسات الترانسفير وضم الأراضي وإقرار القوانين العنصرية ويتفاخرون بقتل العرب وينتهكون المقدسات بحماية تامة من جيش الإحتلال، مايؤكد مرة أخرى أن حالة الإنقسام والتشرذم ماهي إلا صناعة ومصلحة اسرائيلية عليا وجزء هام من استراتيجيتها الإستخدامية لإضعاف الموقف الفلسطيني وتمرير رؤيتها للحل الذي يتناسب مع بقاء الإحتلال إلى الأبد.
لقد عانى الشعب الفلسطيني ويلات الإنقسام وينتظر من الجميع أن يكون الرد الإسرئيلي بمثابة درس بليغ على أهمية الوحدة الوطنية التي تتحطم على صخرتها كافة المؤامرات، لذلك يتطلب بذل أقصى الجهود لإنجاح هذه الخطوة المباركة حتى يمكن القول أن حزيران الإنقسام والهزيمة في طريقهما إلى الزوال عاجلاً أم أجلاً، يبقى القول لمن يصفون المصالحة بأنها حقل ألغام قابل للإنفجار في كل لحظة، الشعب الفلسطيني قادر بامتياز على تفكيك المصاعب وإلا سينفجر بوجه الذين يعطلون مسيرته نحو الحرية والإستقلال الناجز..!!