عالمنا اليوم عبارة عن متاهة كبيرة متصلة بطبقات تتلوها طبقات من الإسفلت الخرساني الذي يمنحنا رفاهية التنقل بمركباتنا وسياراتنا وسط هذه المتاهة كي نصل إلى مكاتبنا وبيوتنا على جوانب الطرقات.
بالنسبة للكثير من التطورات التقنية المتعلقة بالطرق، فإن تطبيقات الخرائط ونظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" (GPS) تتيح لنا رفاهية الإبحار وسط هذه المتاهة دون أن نخشى الضياع، فهناك الكاميرات ومحطات الرادار والسيارات الكهربائية التي تصرف وقودا أقل، والمركبات ذاتية القيادة، فضلا عن إشارات المرور التي تنظم حركة السير.
ومع ذلك فما زالت الحوادث القاتلة تقع في كل يوم، حيث يفقد أكثر من 1.3 مليون إنسان حياتهم في كل عام بسبب حوادث الطرق، ويسجل في كل سنة ما بين 20 و50 مليون إصابة بسبب هذه الحوادث، والكثير منها ينتهي بإعاقات دائمة، حسب إحصائيات الأمم المتحدة المنشورة أخيرا.
كما تتسبب الإصابات الناجمة عن حوادث الطرق في خسائر اقتصادية كبيرة للأفراد وأسرهم والدول ككل، وتنجم هذه الخسائر عن تكلفة العلاج وفقدان الإنتاجية لأولئك الذين قتلوا أو جرحوا أو أصيبوا بإعاقات دائمة بفعل الحوادث التي تعرضوا لها، إضافة إلى أفراد الأسرة الذين يحتاجون إلى إجازة من العمل أو المدرسة لرعاية المصابين.
خرائط المخاطر
للتغلب على هذه المعضلة العالمية وغياب الأمان على الطرقات وحالة عدم اليقين الكامنة في الحوادث، طوّر علماء من مختبر علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي "سي إس إيه آي إل" (CSAIL) التابع لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا "إم آي تي" (MIT) ومركز قطر للذكاء الاصطناعي "كيو سي إيه آي" (QCAI) نموذجا للتعلم العميق يتنبأ بالحوادث الممكنة بدقة عالية، ويرسم خرائط دقيقة للغاية يحدد فيها نقاط الخطر في الشوارع والطرقات التي ستقع عليها الحوادث وأوقات حدوثها.
وتم تزويد خرائط المخاطر هذه بمجموعة من بيانات ومعلومات الاصطدام والحوادث التي حدثت في الماضي على هذه الطرقات، إضافة إلى صور من الأقمار الصناعية، وبيانات من نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس"، وهي جميعا تصف العدد المتوقع من الحوادث على مدى فترة زمنية معينة بهدف تحديد المناطق عالية الخطورة والتنبؤ بالحوادث المستقبلية، كما ورد في البحث الذي تم نشره مؤخرا على منصة جامعة ماساشوستس.
دقة تنبؤ تبلغ 5 أمتار
كانت دقة خرائط المخاطر السابقة أقل بكثير، وتصل في أفضل الأحيان إلى مئات الأمتار، ولكن مع النموذج الجديد فإن دقة التنبؤ بالحوادث تبلغ نحو 5 أمتار فقط، وهو ما يعني دقة متناهية في التنبؤ بالحوادث.
كما وجد العلماء في المعهدين أن الطرق السريعة تحتوي على مخاطر أعلى من الطرق السكنية، ووجدوا كذلك أن الطرق الفرعية التي تصب أو تخرج من وإلى الطرق السريعة مخاطرها أعلى بكثير من الطرق الفرعية المتصلة بالطرق الأخرى.
يقول "سونجتاو هي" طالب الدكتوراه في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا والمشارك في البحث، "من خلال تحديد جدول توزيع المخاطر الأساسي الذي يحدد احتمال وقوع حوادث مستقبلية في جميع الطرق والأماكن، ومن دون أي بيانات تاريخية مسبقة، فإنه يمكننا العثور على طرق أكثر أمانا، وتمكين شركات التأمين على السيارات من تقديم خطط تأمين مخصصة بناءً على مسارات قيادة العملاء، وكذلك مساعدة مخططي المدن في تصميم الطرق والشوارع المستقبلية بحيث تكون أكثر أمانا، وصولا إلى التنبؤ بالحوادث المستقبلية".
الطرق كخلايا شبكية
تكلف حوادث السيارات حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي السبب الرئيسي لوفاة الأطفال والشباب في العالم. وهو ما يجعل من مثل هذا العمل في غاية الأهمية، وفي الحقيقة فإن رسم خرائط المخاطر بمثل هذه الدقة العالية كان مهمة صعبة للغاية، حيث رسم فريق العمل الطرق كخلايا شبكية مكونة من 5 أمتار في 5 أمتار، ونسبة احتمال وقوع حادث في كل خلية مكونة من 5 أمتار مربع تصل إلى نحو واحد إلى ألف، ونادرا ما يقع الحادث في الموقع نفسه مرتين، وهو ما جعل عملية التنبؤ صعبة للغاية من دون سوابق تاريخية، حيث لن يتم اعتبار المنطقة عالية الخطورة إلا إذا تكرر وقوع الحوادث بها.
منهجية الفريق تمثلت في بناء شبكة أوسع لالتقاط البيانات الهامة الضرورية التي تحدد المواقع عالية الخطورة باستخدام أنماط سير نظام تحديد المواقع العالمي، والذي يقدم معلومات عن كثافة حركة المرور وسرعتها واتجاهها، إضافة إلى صور الأقمار الصناعية التي تصف بنية وهياكل الطريق، مثل عدد المسارب في كل طريق، أو ما إذا كان هناك عدد كبير من المشاة، أو طرق فرعية تصب فيها أو تخرج منها، وبعد ذلك، وحتى إذا لم تكن هناك منطقة عالية الخطورة بها حوادث مسجلة سابقا، فلا يزال من الممكن تحديدها على أنها عالية الخطورة بناءً على أنماط حركة المرور وطوبولوجيتها.
لتقييم النموذج، استخدم العلماء حوادث وبيانات من عامي 2017 و2018، واختبروا أداءه في التنبؤ بحوادث عامي 2019 و2020، حيث تم تحديد العديد من المواقع على أنها عالية الخطورة، على الرغم من عدم وجود حوادث مسجلة سابقا فيها، كما تمت متابعة الحوادث التي وقعت خلال سنوات الدراسة.
قطر للذكاء الاصطناعي: يمكن تطبيق نموذجنا في أي مدينة بالعالم
يقول الباحث أمين صادقي، العالم في مركز قطر للذكاء الاصطناعي والمشارك في البحث، "يمكن تعميم نموذجنا وتطبيقه في أي مدينة أو مكان في العالم من خلال الجمع بين أدلة متعددة من مصادر بيانات قد تبدو غير مترابطة مع بعضها بعضا.. هذه خطوة نحو الذكاء الاصطناعي العام لأن نموذجنا يمكن أن يتنبأ بخرائط الحوادث في أي منطقة في العالم، حتى في حالة عدم وجود سجلات للحوادث السابقة، والتي يمكن أن تستخدم -في حال توفرها- لتخطيط المدينة وصنع السياسات المرورية من خلال مقارنة السيناريوهات التخيلية التي يمكن حدوثها في المستقبل".
غطت مجموعة البيانات التي جمعها فريق العمل 7500 كيلومتر مربع من مدن لوس أنجلوس ونيويورك وشيكاغو وبوسطن، ومن بين المدن الأربع كانت لوس أنجلوس هي الأكثر خطورة، حيث كان بها أكبر نسبة حوادث مقارنة بالمدن الأخرى، تلتها مدن نيويورك وشيكاغو وبوسطن على التوالي.
ويؤكد سونجتاو هي: أن بإمكان الأشخاص استخدام خرائطنا لتحديد أجزاء الطريق التي يحتمل أن تكون عالية الخطورة، بحيث يمكنهم التخطيط المسبق لرحلاتهم لتجنب هذه الأماكن، وتحتوي تطبيقات مثل "ويز" (Waze) و"آبل مابس" (Apple Maps) على أدوات خاصة لتحديد الحوادث، ولكننا في نموذجنا وخرائطنا نحاول تجنب الحوادث قبل وقوعها أصلا.