شبكة الإنترنت الحالية التي تعتمد على استغلال البيانات الشخصية كوسيلة أساسية تتخذها شركات التكنولوجيا للكسب وتحقيق مليارات الدولارات من الأرباح دون حسيب أو رقيب، هذه الشبكة في طريقها للأفول، لتحل محلها إنترنت أخرى أكثر مراعاة للخصوصية، وأشد تحجيما لعمالقة التكنولوجيا الذين شكلت فضائحهم في اختراق خصوصية الناس في مختلف بقاع العالم مادة دسمة للمحامين والقضاة ووسائل الإعلام.
قضايا عديدة ترفعها الحكومات لمحاربة احتكار هذه الشركات للبيانات الشخصية في كل مكان في العالم الآن، والغرامات تبلغ مليارات الدولارات.
ما العمل؟ هكذا يسأل الآن المديرون التنفيذيون في كبرى الشركات التكنولوجية للتعامل مع هذه الموجة العاتية ضد احتكاراتها، واستغلالها لمليارات البشر حول العالم. كيف نستعد للمستقبل الذي يبدو أنه سيشهد إنترنت مختلفة، إنترنت لا تستغل خصوصية البشر من أجل تحقيق الأرباح والأموال الطائلة.
في الإجابة عن السؤال، طرحت شركة آبل نافذة جديدة منبثقة لأجهزة الآيفون (iPhone) التابعة لها في نيسان/أبريل الماضي، تطلب الإذن من الذين يستعملون أجهزتها لتتبعهم من خلال التطبيقات المختلفة التي يحمّلونها على أجهزتهم من متجرها، ولم تكن تطلب هذا الإذن في السابق، بينما أعلنت شركة غوغل (Google) مؤخرا عن خططها لتعطيل تقنية التتبع في متصفح الويب "كروم" (Chrome) الخاص بها.
ومن جانبها، قالت شركة فيسبوك (Facebook) الشهر الماضي إن المئات من مهندسيها يعملون على طريقة جديدة لعرض الإعلانات دون الاعتماد على البيانات الشخصية للمسجلين في منصاتها.
ترقيع تقني
تبدو هذه التطورات وكأنها "ترقيع تقني"، كما يقول الكاتب الأميركي برايان إكس شين في مقالة له بصحيفة نيويورك تايمز (New York Times). ويوضح الكاتب أن "هذه الإجراءات من قبل عمالقة التكنولوجيا جاءت بعد الفضائح والاتهامات الكبرى التي تعرضت لها هذه الشركات بشأن طرق استعمالها واستغلالها للبيانات الشخصية لمستخدميها وعملائها".
ويؤكد الكاتب أن الإجراءات "كذلك مرتبطة بشيء أكبر بكثير، وهي المعركة المحتدمة حول مستقبل الإنترنت. لقد أربك الصراع عمالقة التكنولوجيا، وعطل الأعمال التجارية الصغيرة، وهو ينذر بتحول عميق في كيفية استخدام المعلومات الشخصية للبشر عبر الإنترنت، مع آثار واسعة النطاق على الطرق التي تجني بها الأنشطة التجارية الأموال رقميا".
شريان الحياة في خطر
وفي قلب هذا الصراع، يكمن شريان الحياة للإنترنت وللشركات العملاقة التي تسيطر عليه، ألا وهو الإعلانات.
ويوضح الكاتب أن "الإنترنت منذ ظهورها أحدثت ثورة في صناعة الإعلان. لقد قضت على سوق الإعلانات للصحف والمجلات الورقية التي كانت تعتمد على بيع الإعلانات المبوبة والمطبوعة، وهددت كذلك بإلغاء الإعلان التلفزيوني كطريقة رئيسية للمسوقين للوصول إلى جمهور كبير. وبدلا من ذلك، نشرت العلامات التجارية إعلاناتها عبر مواقع الويب، حيث غالبا ما تكون عروضها الترويجية مصممة لتناسب الاهتمامات المحددة للأشخاص في هذه المواقع والمنصات. ودعمت هذه الإعلانات الرقمية نمو شركات مثل فيسبوك وغوغل وتويتر إلى مستويات غير مسبوقة، حتى غدت شركات التكنولوجيا العملاقة تحتكر سوق الإعلانات في العالم كله".
أرباح خيالية
ولنتخيل حجم الأرباح التي تحققها هذه الشركات من استغلال بياناتنا الشخصية، فقد بلغ إجمالي أرباح كل من شركات ألفابت -التي تملك غوغل- وآبل، ومايكروسوفت 56.8 مليار دولار بعد خصم الضرائب، خلال الربع الثاني من العام الجاري فقط، وحققت الشركات الثلاث عائدات مبيعات في نفس الفترة وصلت إلى 189.4 مليار دولار، بزيادة بنسبة 39% مقارنة بنفس الفترة من عام 2020، وذلك وفقا لموقع "إيه بي نيوز" (apnews).
أما شركة فيسبوك فقد قفز صافي أرباحها بنسبة 101% على أساس سنوي، حيث بلغ 10.5 مليارات دولار خلال الربع الثاني من العام الجاري، مقارنة بـ5.2 مليارات دولار حققتها الشركة خلال الربع الثاني من عام 2020، وبلغ عدد مستخدمي فيسبوك أو التطبيقات الأخرى التي تملكها الشركة نحو 3.51 مليارات شخص.
الأفعى تغير جلدها لكن هل تصبح قطا أليفا؟
وعودة إلى برايان شن الذي يؤكد أن هذه الشركات قد اتبعت إستراتيجية في غاية الدهاء لتحقيق كل هذه الأرباح الخيالية حين قدمت خدمات البحث والشبكات الاجتماعية التابعة لها مجانا للناس، ولكنها في المقابل قامت بتعقب المسجلين في منصاتها من موقع إلى آخر بواسطة تقنيات مثل "ملفات تعريف الارتباط"، واستخدمت بياناتهم الشخصية التي تجمعها في منصاتها لاستهدافهم بالتسويق والإعلان، دون أدنى احترام لخصوصيتهم أو حتى طلب إذن منهم يخولها استخدام معلوماتهم الشخصية.
الآن يتم تفكيك هذا النظام، وبدافع اتهامات اختراق الخصوصية، بدأت آبل وغوغل وفيسبوك في تجديد القواعد المتعلقة بجمع البيانات عبر الإنترنت، وتقوم هذه الشركات الآن باستكشاف مسارات مختلفة للبقاء على قيد الحياة عبر الإنترنت الواعي بالخصوصية، بل غيرت في كثير من الحالات أسلوب عملها بالكامل حيث أصبحنا نرى الكثير من المواقع والمنصات تفرض على المسجلين على منصاتها دفع مبالغ مالية مقابل الخدمات التي تقدمها عبر الإنترنت، من خلال فرض رسوم اشتراك ورسوم أخرى بدلا من استخدام بياناتهم الشخصية.
هو مجرد تغيير للإستراتيجية لا أكثر نحو طرق أشد دهاء ومكرا، ولكن لا ينبغي لنا أن نتخيل ولو للحظة واحدة أن الأفعى التي تغير جلدها ستغدو قطا أليفاً.. هذه الشركات لن تتوقف في يوم من الأيام عن استخدام بياناتنا ومعلوماتنا الشخصية من أجل تحقيق المزيد من الأرباح لجيوب ملاكها المنتفخة.