عبد الباري عطوان
ليس من قبيل الصّدفة أن تكون الحُكومات العربيّة التي وقّعت اتّفاقات “سلام أبراهام” في الأشهر الأخيرة، هي الأكثر تَورُّطًا في فضيحة “بيغاسوس” التي تَهُزّ العالم حاليًّا، لما تَكشِف عنه من أعمال تجسّس على أكثر من 50 ألف هاتفًا لصِحافيين ومُعارضين سياسيين، بل ومُلوك ورؤساء وِزارات وشخصيّات عربيّة وعالميّة بارزة.
التّنسيق الأمني بشقّيه التّقليدي و”السّيبراني” هو العمود الفِقري لهذه الاتّفاقات، ولأنّ مُعظم الحُكومات العربيّة، خاصّةً في مِنطقة الخليج تعيش هاجِسًا أمنيًّا لأسبابٍ عديدة خلقت هُوّةً واسعة بينها وبين شُعوبها، باتَ من السّهل جرّها إلى مِصيَدة الحِماية الأمنيّة الإسرائيليّة المَزعومة، وإغرائها بشِراء برامج سيبرانيّة للتّجسّس على الشّخصيّات المُعارضة ومُنظّمات حُقوق الإنسان، ورجال الصّحافة الذين يُطالبون بالإصلاح والحُريّات، واجتِثاث الفساد من جُذوره.
***
كَثيرةٌ هي المعلومات التي تسرّبت حتّى الآن عن ضحايا هذه العمليّات التّجسّسيّة الأضخم من نوعها، وانتِهاك خُصوصيّة الآلاف من المُستَهدفين، وبينهم مُلوك، مِثل ملك المغرب محمد السادس، ورئيس وزرائه سعد الدين العثماني، وأفراد في الأُسرة المغربيّة الحاكمة، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، والرئيس العِراقي برهم صالح، ورئيس الوزراء اللبناني السّابق سعد الحريري، والقائمة تطول.
ربّما حصلت دول انخرطت في هذه العمليّات من خِلال شرائها هذه البرامج التّجسّسيّة من الشّركة الإسرائيليّة الأُم على بعض المعلومات عن مُعارضيها مِثل المملكة العربيّة السعوديّة والمغرب والإمارات والبحرين، وتحرّكاتهم، ولكن “المُشَغِّل الإسرائيلي” هو المُستفيد الأكبر، لأنّه وحسب المعلومات الأوّليّة، حصَل على كَمٍّ هائلٍ من الأسرار، وربّما الصّور والتّسجيلات جرى، أو سيجري استِخدامها بطُرُقٍ ابتزازيّة للهيمنة على الضّحايا، وإخضاعهم للمطالب الإسرائيليّة وإلا..
فالتّحقيقيات الأوّليّة كشفت أن عمليّة التّجسّس تتضمّن زرع فيروسات في الهواتف المُستَهدفة تتحكّم في كاميراتها وأجهزة تسجيلها بحيث تَرصُد كُلّ تحرّكات أصحابها حتى في الغُرَف المُغلَقة، وربّما في غُرَف النّوم أيضًا، وبذلك تكون هذه البرامج “السّيبرانيّة” سلاح ذو حدّين، الأوّل يَستهدِف المُعارضين والصّحافيين وتحرّكاتهم، والثّاني يَستَهدِف المُشَغِّلين لها، وهُنا ينقلب السّحر على السّاحر، بطَريقةٍ أو بأُخرى.
صحيح أنّ مُعظَم الحُكّام العرب يستخدمون الهواتف القديمة الرّخيصة (نوكيا)، ويتَجنّبون أجهزة الهواتف الذكيّة الحديثة، لأنّ الأولى الأكثر بدائيّةً وأقلّ اختِراقًا، ولكنّ هذه النظريّة باتت قديمةً، وأجهزة التّجسّس الحديثة قادرة على الوصول إلى هؤلاء بطُرُقٍ شتّى، حسب ما ذكر لنا أحد المُتَخَصِّصين الكِبار في الأجهزة “السّيبرانيّة” الحديثة والمُتطَوِّرة.
العالم الغربي يشهد حاليًّا ضجّةً كُبرى لأنّ عمليّات التّجسّس هذه أصابت أُسس ديمقراطيّته وحُريّاته الشخصيّة في مقتل، وباتت أسراره ورجال إعلامه وسياسييه مكشوفة، ولهذا بادرت عدّة جهات للّجوء إلى القضاء لمُحاكمة المُتَورِّطين في عمليّات التّجسّس هذه، وتنظيم حملة دُستوريّة الطّابع لتَعديل القوانين لتوفير الحِماية للمُواطنين وخُصوصيّتهم.
***
طبيعي أن تُنكِر بعض أجهزة الاستِخبارات العربيّة كُلّ الاتّهامات المُوجّهة لها في هذا الصّدد، وتُصدِر بيانات استِنكار وشجب وإدانة، دُون أن تُوَجِّه أيّ لوم لإسرائيل، والشّركة المُنتجة لهذه البرامج التّجسّسيّة، ولكن هذا النّفي لن يحظى بأيّ مِصداقيّة لأنّ من كشَف هذه الحقائق وأجرى التّحقيقات المُوثَّقَة بالأدلّة، صحافيّون يُمَثِّلون أكثر من 37 مُؤسّسة إعلاميّة عالميّة، وما زالت جُهودهم ومَهمّتهم السّامية في بِدايَتها.
الأيّام والأسابيع المُقبلة ستَكشِف عن الكثير من الأسرار ليس عن بعض جوانب الحياة الشخصيّة والسياسيّة للمُعارضين السّياسيين ورجال الإعلام والسّياسيين المُستَهدفين، وإنّما أيضًا عن بعض الحُكّام العرب وأُسرهم، وعلينا أن نتَذكّر دائمًا أنّ “الحليف” الإسرائيلي لا يَكتُم سِرًّا، وأوّل من يفضَح أسرار أصدقائه، وما علينا إلا الانتِظار، فطبّاخ السُّم لا بُدَّ أن يذوقه في نهاية المَطاف.