مِن المُؤلِم، بالنّسبة إلينا على الأقل، أنّه في الوقت الذي يعترف فيه جِنرالات إسرائيليين كبارًا أنّ حرب غزّة الأخيرة كانت الفشَل الأخطر في تاريخ إسرائيل حيث بات سلاح الصّواريخ يُشَكِّل التّهديد الوجودي الحقيقي لها، يُبادِر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بالاتّصال بنظيره الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ في مُكالمة هاتفيّة استَغرقت 40 دقيقة لتهنئته بفوزه بمنصبه الجديد، مُعَبِّرًا عن رغبته في التّعاون مع دولته في مجالات الطّاقة والتّكنولوجيا، ومُؤكِّدًا أنّ الدّولتين مُمكن أن يلعبَا دورًا مُهِمًّا في أمن واستِقرار منطقة الشّرق الأوسط، أمّا الصّدمة الثّانية، التي لا تَقِل إيلامًا، فتِلك الاحتِفالات الباذخة التي أُقيمَت في تل أبيب بمُناسبة افتِتاح سفارة دولة الإمارات العربيّة المتحدة تدشينًا لـ”سلام أبراهام”.
***
ثُلاث نُقاط رئيسيّة يُمكن استِخلاصها من مُتابعة دقيقة لأجهزة الإعلام الإسرائيليّة، وتحرّكات وتصريحات المسؤولين الحاليين والجِنرالات المُتقاعدين التي يُمكن أن تُؤكِّد ما قُلناه سابقًا، أيّ حالة الهزيمة التي تعيشها الدّولة العبريّة بفَضل صواريخ رجال المُقاومة في قِطاع غزّة، وحاضنته محور المُقاومة وتَضاعُف مخزون ترسانته العسكريّة:
الأولى: تحذير الجِنرال احتِياط إسحاق بريك من أنّ سلاح الصّواريخ الذي بات في حوزة فصائل المُقاومة في قطاع غزّة وجنوب لبنان بات يُشَكِّل تهديدًا وجوديًّا وحلقة خانقة حول عُنُق إسرائيل، وتأكيده بأنّ ما هو أخطر من ذلك تعاطي القِيادة العسكريّة الإسرائيليّة مع هذا التّهديد بعقليّة الحُروب القديمة، والتّركيز على تقوية سِلاح الجوّ الإسرائيلي الذي فقَد قُدرته التاريخيّة على الرّدع كُلِّيًّا، لأنّه فَشِلَ فَشَلًا ذريعًا في وقف صواريخ فصائل المُقاومة في غزّة رغم أنّها لا تملك منظومات دِفاع جوّي، ولا طيران، وأجواء القِطاع مفتوحة بالكامِل للطّائرات الحربيّة الإسرائيليّة.
الثّانية: لم تَكشِف هذه الحرب عن فشل القبب الحديديّة فقط، وإنّما ارتِباكها في مُواجهة الحرب الصّاروخيّة أيضًا، وجاء في تقرير للقناة 13 الإسرائيليّة بثّته أمس أنّها أسقطت طائرة مُسيّرة إسرائيليّة، وأصابت أُخرى من طِراز “إف 16” الأمريكيّة الصُّنع، ممّا يَعكِس حالة الارتِباك التي كانت سائدةً في أوساط القِيادة العسكريّة العملياتيّة الميدانيّة أثناء إدارة هذه الحرب.
الثّالثة: ثَبُتَ بالدّليل القاطع، واستِنادًا إلى تصريحات نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي وخُبراء آخرين أنّ إسرائيل تَقِف عمليًّا خلف جميع الأزمات التي يعيشها لبنان حاليًّا بِما في ذلك الاقتِصاد واللّيرة اللبنانيّة، والخدمات العامّة، وتجويع أكثر من 80 بالمِئة من أبناء لبنان، ودفع البِلاد بقُوّةٍ نحو الحرب الأهليّة بعد اعتِذار سعد الحريري عن تشكيل الوزارة في تَعميقٍ للأزَمة السياسيّة في البِلاد.
نشرح أكثر هذه النّقطة بشَكلٍ أوسع وأعمق، ونقول إنّ هدف إسرائيل إلهاء “حزب الله” بالأزَمات الداخليّة اللبنانيّة، وتحميله من خِلال حملات إعلاميّة مُكثّفة، داخليّة وخارجيّة، مسؤوليّتها، وتحويل اهتِماماته كقُوّة مُقاومة عن الخطَر الإسرائيلي المُحدَق بالأُمّة، وقضيّتها المركزيّة.
بينيت، وفي كلمةٍ ألقاها امس في حفل تخريج، حمّل “حزب الله” وإيران مسؤوليّة الأزَمة في لبنان، “لأنّهما يُعَرِّضان مُواطني لبنان ومُستَقبلهم للخطَر، وباتا عَدُوًّا مُشتَركًا لإسرائيل وللبنانيين يجب التّعاون معها لمُواجهتهما”.
الخُبراء الإسرائيليّون يُؤكِّدون ليل نهار في تحذيراتهم أنّ الحزب يُمكَن أن يُطلِق 3000 صاروخ يوميًّا في الأسابيع الأولى لأيّ حرب يشنّها على دولة الاحتِلال، ولهذا يُرَكِّزون حاليًّا على أشغاله وسِلاحه بالدّاخل اللّبناني في حَربِ استِنزافٍ طويلة قد تمتدّ لسَنواتٍ على غِرار الحرب الأهليّة الأُولى (1975 ـ 1990).
***
ما يُثير السّخرية تلك الموجة الجديدة من التّصريحات التي يُطلِقها بينيت ورئيس هيئة أركان جيشه الجِنرال أفيف كوخافي هذه الأيّام ويُهَدِّد فيها بالقيام بعمليّة اقتِحام للعُمُق اللّبناني لضَرب البُنى التحتيّة العسكريّة لحزب الله، وحاضنته الشّعبيّة، السّخرية لأنّ هذا الجيش ودبّاباته وطائراته مُنِي بهزيمة مُهينة في قِطاع غزّة، ولم يتَقدّم مَتْرًا واحِدًا في أراضيه، فكيف سيَفعل في لبنان ما عَجِزَ عنه في القِطاع الفقير المُحاصِر؟
ثُمّ من قال لهم إنّ صواريخ “حزب الله” التي يزيد تِعدادها عن 150 ألفًا حسب التّقديرات الإسرائيليّة قبل عامين (الآن زادت عددًا وباتت أكثر دقّة)، ستَظل في مرابضها في وَقتٍ تقتحم فيه الدبّابات الإسرائيليّة الجنوب؟
ينسى الإسرائيليّون الذين يُطلِقون هذه التّهديدات أنّنا نعيش هذه الأيّام الذّكرى السنويّة لانتِصار حرب تمّوز عام 2006، مثلما ينسون أيضًا أنّ “حزب الله” اليوم غير “حزب الله” قبل 15 عامًا، خبرةً وتسليحًا وإرادةً وقُوّةً، وعليهم أن يُجَرِّبوا حظّهم، ولن يَجِدوا ما يسرّهم.. والأيّام بيننا.
| عبد الباري عطوان