مروان طحطح
رحل أنيس نقاش على يد كورونا، وهو الذي نذر نفسه ليرحل شهيداً طوال خمسين عاماً من حياته مناضلاً مجاهداً وبوصلته متّجهة إلى فلسطين. ولم يبدّل تبديلا. فهو شهيد بنيته بالرغم من غدر كورونا اللعين.
مثّل أنيس نقاش جيلاً من اللبنانيين والعرب، جعل بوصلته النضالية تحرير الأمة ووحدتها ومقاومة الهيمنة الإمبريالية الأميركية من خلال الانخراط في الثورة الفلسطينية، ليس دعماً للشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً، بل وأساساً، باعتبار قضية فلسطين لبنانية - عربية، سواء بسواء كما هي بالنسبة إلى الفلسطيني.
عندما بدأ أنيس نقاش رحلة العمر الكفاحية من خلال الانخراط في فتح والثورة الفلسطينية، لم يكن هنالك شيء اسمه منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد»، وإنما كان فقط هنالك قضية فلسطينية، باعتبارها قضية العرب الأولى والمركزية. وكان هنالك منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية، التي تعتبر في منطلقاتها: فلسطين جزءاً من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزءاً من الأمة العربية. بل كان من المستهجن ذكر النظرة القطرية القائلة: بـ«الفلسطنة» فلسطينياً، أو التي تعتبر الانتساب القطري، في الأقطار العربية، هو انتساب للقطر أولاً.
وما كان لأحد أن يردّدها، إذ كان جيل أنيس نقاش من لبنانيين وعرب يردّون عليها بقوّة ليس بلغة القلم واللسان، وإنما بلغة الفعل وبذل الدم ونيل الشهادة في القتال ضد العدو الصهيوني.
كان جيل الشباب الذين في عمر أنيس نقاش، والمتطلعون إلى التغيير والنهضة والتحرر والعدالة الاجتماعية، وكان أنيس في المقدمة، يجدون الطريق إلى الثورة في بلادهم أو في البلاد العربية تمر عبر الكفاح من أجل فلسطين. فهم أصلاء في الثورة الفلسطينية كأيٍّ من أبنائها الفلسطينيين. بل يمكن القول إن أنيس نقاش وأبناء جيله، وبعضهم لم يصل إلى العشرين عاماً بعد، قد أخذوا يقودون التظاهرات ويعبئون زملاءهم في الثانويات ليذهبوا إلى مراكز التدريب، ويتوجهوا جنوباً للمشاركة في صدّ أي عدوان صهيوني في أوائل السبعينيات على العرقوب أو كفرشوبا وغيرهما من القرى والبلدات.
أنيس نقاش كان بارزاً ومتميزاً بهذا النموذج الشبابي الممتلئ وعياً ثورياً، والمترفّع عن كل مصلحة ذاتية تبحث عن مستقبل من خلال شهادة علمية، أو من خلال عمل في دولة من دول الخليج. لقد أصبح المستقبل الشخصي كله خاضعاً للثورة الفلسطينية، وما يتبع ذلك من تضحيات واستشهاد. وكنتَ في ذلك الوقت، إن سألت عن أنيس لوجدتَه جاء إلى بيروت وغادرها إلى الجنوب، أو الجبل، في الحرب الأهلية، فهو دائماً هنا وهناك وهنالك. فنشاطه كان ليل نهار لا يكلّ ولا يملّ. وكان طوال حياته ممارساً وقائداً ميدانياً، إلّا في العشر سنوات التي قضاها في السجن لتأخذ نشاطيته جولات في الثقافة دراسة وتعلّماً وقراءة وتثقفاً، ليعود بعدها مع التقدم في بداية الأربعينيات من عمره، ليصبح من المناظرين في أجهزة الإعلام والندوات السياسية بما يمسّ الفلسفة، وعلم السياسة والحرب، وإدارة الصراع والاستراتيجية. وقد أخذ اهتمامه بالبعد الأمني مساحة واسعة من وعيه ونشاطه واهتماماته.
أنيس نقاش كان من الأوائل الذين التقطوا أهمية الثورة الإسلامية في إيران. لا من ناحية أهميتها بانتزاع إيران من براثن طاغوت الشاه والإمبريالية الأميركية فحسب، وإنما أيضاً وبالدرجة الأولى باعتبارها ثورة حضارية أعادت للإسلام مكانته في السياسة الدولية. وقد ركز وبصورة مبكرة وعياً يدرك أهمية الثورة الإسلامية في إيران بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. وهذا الوعي هو الذي ذهب بأنيس نقاش إلى أن يصبح رمزاً عربياً لبنانياً فلسطينياً، يشارك في الجهد الثوري الذي وضعته إيران منذ اليوم الأول من ثورتها في الوقوف مع فلسطين ومواجهة العدو الصهيوني.
لقد أثبتت عشرات السنين أن الجمهورية الإسلامية من جهة، والمقاومة الإسلامية في لبنان من جهة أخرى، ومدهما يد التعاون والتشارك والدعم للمقاومة الفلسطينية، ونصرة القضية الفلسطينية، أن إيران بقيت الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف بالكيان الصهيوني وشرعية وجوده في فلسطين، بل أصبحت اليوم العدو الأول، في نظر أميركا، للكيان الصهيوني. بل أصبحت المعركة المفتوحة الآن بين أميركا والكيان الصهيوني من جهة، ومحور المقاومة من جهة ثانية، هي التي ستقرر مصير فلسطين والمنطقة لعشرات السنين القادمة. الأمر الذي يثبت أن أنيس نقاش - بوجوده في قلب المعركة في فلسطين، ومن أجل فلسطين، سواء أكان موقعه في لبنان أم ضمن محور المقاومة عموماً، ولا سيما إيران وسورية - كان نافذ النظرة محافظاً على البوصلة الحقيقية المصوّبة إبرتها إلى القدس ويافا وحيفا وعسقلان.
فرحمة الله على أنيس نقاش، وأسكنه فسيح جنانه. وقد خسره لبنان وخسرته فلسطين، وخسره محور المقاومة.