د. جمال زهران
من دون شك، فإنّ العالم والإقليم يتابعان بكلّ اهتمام، مخرجات نظام جو بايدن – الرئيس الأميركي الديمقراطي الجديد، الذي أطاح بالرئيس ترامب بعد فترة رئاسية واحدة وعلى غير المتوقع لغالبية المحللين، وللمرة الثانية بعد بوش الأب الذي أطيح به بعد فترة واحدة، ممن ينتمون للحزب الجمهوري، كما سبق أن أشرت تفصيلاً في مقالات سابقة. فمنذ اليوم الأول، والعالم يستقبل قرارات بايدن، باعتبار أنّ أميركا دولة كبرى لها استراتيجية كونية، بعيداً عن المشاعر حباً أو كرهاً في هذه الدولة ونظامها.
ومن الواضح أنّ تصريحات بايدن، خلال حملته الانتخابية، اتسمت بالصدق والوضوح وعلى عكس تصريحات ترامب، ولم تكن تصريحات للاستهلاك المحلي. وقد أفصح بايدن عن صدق تصريحاته، في قراراته المتتالية التي تصدر تباعاً. وقد سبق لي أن توقعت الملامح الأساسية لسياسات بايدن، في مقالات سابقة خصوصاً تجاه الإقليم الذي نعيش فيه (المنطقة العربية والشرق الأوسط).
فقد أعلن بايدن، قرارات تمثل رؤية حقيقية لما سيكون عليه الإقليم خلال السنوات الأربع المقبلة، على الأقلّ، وربما تستمرّ أكثر من ذلك، بفعل رسوخها وحجم التغييرات التي سيشهدها الإقليم وفقاً لهذه الرؤية.
ووفقاً لما يتضح من سلسلة القرارات التي أصدرها ويصدرها بايدن، يتضح الآن أنّ هناك قضايا ساخنة لا بدّ من حسمها، وبسرعة، وقضايا دافئة، يمكن أن تأخذ وقتاً قصيراً. وهناك قضايا باردة، يمكن أن تأخذ وقتاً طويلاً، من دون أن تؤثر في مجريات الأمور في الإقليم بمستوييه (العربي والشرق أوسطي) ويمكن شرح ذلك في ما يلي:
أولاً: القضايا الساخنة
وهي القضايا التي تتضمّن استخداماً للقوة، وتدفع أميركا ثمناً فادحاً فيها، مثل اليمن، وليبيا، والساحتين السورية والعراقية. حيث يلاحَظ أنّ الرئيس بايدن، قد اتخذ قرارات حاسمة في اليمن، تضمّنت وقفاً فورياً للحرب في اليمن، بأن قرّر توقف كلّ الدعم العسكري الأميركي في الحرب على اليمن، وسبقه قرار إلغاء اعتبار جماعة الحوثيين وأنصار الله، جماعة إرهابية، الأمر الذي فتح الباب الدبلوماسي واسعاً، لإنهاء هذه الحرب. ويعتبر هذا القرار الأميركي، إعلان الهزيمة الرسمية لكلّ من السعودية والإمارات، ومن ساندهم، وأنّ عليهم جميعاً وقف هذه الحرب والانتقال إلى الخطوة الدبلوماسية للوصول إلى حلّ سلمي للأزمة في اليمن.
أما الأزمة السورية وكذلك في العراق، فإنّ الأولوية لانسحاب القوات العسكرية الأميركية والبدء في إجراءات الحوار مع الأطراف المعنية للوصول إلى حلّ وإعادة ترتيب الأوضاع في كلا البلدين. وتأتي تصريحات بايدن هذه في إطار تصريحاته أيضاً عن تكليفه لوزير الدفاع بمراجعة خريطة الانتشار العسكري في العالم. وهكذا أيضاً الأزمة الليبية التي دخلت التسوية.
ثانياً: القضايا الدافئة
وهي تلك القضايا التي يمكن أن تأخذ بعض الوقت، ولكنها في طريقها للحلّ بصفة دائمة. وفي هذا السياق تأتي الأزمة الإيرانية والاتفاق النووي في المقدمة، حيث تتمّ المعالجة بشكل تدريجي وتأخذ وقتاً ولكنه يتسم بالقصر. وقد أعلنت إدارة بايدن على لسان وزير خارجيتها (بلينكن)، أنّ إيران مطالبة بالالتزام بالاتفاق النووي، وأنه يجري الآن الإعداد بالرجوع إلى هذا الاتفاق النووي بسرعة.
ويلاحَظ هنا بدء المحادثات الجماعية التي تضمّ وزراء خارجية أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، لمناقشة الاتفاق النووي. وأرى أنّ عجلة الرجوع الأميركي للاتفاق قد بدأت، ويتبقى الإخراج بطمأنة الأطراف الخليجية، ومن ذلك طمأنة إدارة بايدن، للمملكة السعودية بضمان الدفاع عنها في حالة تعرّضها للمخاطر وتهديدات لأمنها. وفي المقابل تجري طمأنة «إسرائيل» وأمنها في مواجهة أيّ تهديدات لها نظير الرجوع إلى الاتفاق النووي.
ثالثاً: القضايا الباردة
وهي تلك التي لا تمثل أولوية كبرى، بالمقارنة بالقضايا الأخرى الساخنة والدافئة. ومن هذه القضايا الأزمة اللبنانية، على خلفية أنّ أبعادها داخلية أكثر وتحتاج إلى مجهود يأخذ بعض الوقت، وكذلك أزمة سدّ النهضة، حيث أعطى وزير خارجية أميركا (بلينكن) الأهمية والأولوية عند الحديث مع نظيره الأثيوبي، إلى أزمة النظام مع أهالي تيجري وأبدى قلقه من المعتقلين! ولم يتطرّق إلى أزمة السدّ! ومن القضايا الهامة ولكنها تأخذ بعض الوقت، العلاقات مع مصر، ومع السعودية بخصوص قضية جمال خاشقجي، والأزمة مع تركيا. بالإضافة إلى القضية الفلسطينية والعلاقات مع أطرافها. حيث اختصرت إدارة بايدن المسألة في الرجوع عن قرارات ترامب بشأن الفلسطينيين.
حيث قرّر إعادة المساعدات للسلطة الفلسطينية، وإعادة التمثيل الدبلوماسي لها في واشنطن، والعودة إلى تمويل منظمة «الأونروا»، المختصة برعاية المهاجرين الفلسطينيين، أي فلسطينيّي المهجر. ولا يزال جوهر القضية الفلسطينية والحلّ النهائي والدائم، فهي مؤجلة بطبيعة الحال. وكما سبق أن قلت إنّ من ينتظر موقفاً أميركياً ضدّ «إسرائيل» ولصالح القضية الفلسطينية، فهو واهم، إلا عندما تتحرك المقاومة والإرادة الذاتية، لتتحرك أميركا وغيرها من الدول الكبرى في الطريق الصحيح، دعماً للحقوق الفلسطينية والعربية.
وهناك من القضايا، ستناقش حسب نوعها وأولويتها بالنسبة للمصلحة الأميركية. إلا أنّ بايدن أعلن، أنه يقول للعالم إنّ الولايات المتحدة قد عادت، وإنّ أميركا ستعيد إرساء التحالفات وتنخرط في السياسات الخارجية، وإنّ إدارته سوف تكون في مواجهة الديكتاتورية، وإنّ القيَم الأميركية الدبلوماسية ستكون هي الأهمّ.
كما أكد على أنّ أميركا ستعمل مع الدول الأخرى لمواجهة التحديات، من دون الانفراد بمواجهتها وحدها. ومن ثم فهو يستبعد الحروب، ويفضل الدبلوماسية والتحالفات مع الخصوم، وتلك هي مظلة بايدن في التعامل مع كافة القضايا.
ولذلك فإنّ نظماً عديدة في المنطقة تنتظر مصيراً مقلقاً في الأشهر المقبلة، حيث يستعيد بايدن… الأميركانيّة، حتى لو تناقضت السياسات الأميركية مع الحلفاء، ودعونا ننتظر!