كان قدر للراحل عبد الستار قاسم :أبو محمد" أن يعيش ملاحقا متعرضا للاعتداءات بشكل دائم، دافعا بذلك ثمن كلامه ومعارضته لنهج التسوية والمفاوضات، داعما لتيار المقاومة والجهاد، ففي منتصف عام 1995 تعرض لمحاولة الاغتيال الأولى والتي أصيب بها بأربع رصاصات، اتهم آنذاك جهاز المخابرات الفلسطينية، واعتقل في بداية انتفاضة الحجارة عام 1987 لدى سلطات الاحتلال بتهمة التحريض.
كما،اعتقلته السلطة الفلسطينية عام 1996 دون أي مبرر ، وفي عام 1999 تم اعتقاله على خلفية بيان العشرين، وعام 2000 أعتقل دون أي أسباب.
في أيار عام 2005، قام عناصر من الأمن الوقائي التابع للسلطة بمحافظة طولكرم بإحراق سيارته، فيما قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بالاعتداء على ذات السيارة في تموز عام 2005.
كما اعتدت عناصر من أجهزة الأمن الفلسطينية على سيارته مرة أخرى في 14/6/2007 ودمرتها بالرصاص.
وقامت أيضا السلطة الفلسطينية باعتقاله بتاريخ 28/7/2008 دون إبداء أسباب.
كما أحرق مجهولون سيارته أمام منزله في منطقة الجبل الجنوبي في مدينة نابلس.
وفي ضوء ذلك، استمر الآذى يلاحق الراحل عبد الستار قاسم فكان على موعد مع محاولة اغتياله جبانة في صباح 5/أغسطس/ 2014، بعد أن أقدم 3 ملثمين على مهاجمته، بينما كان يتهيأ للوقوف لتصعد زوجته أم محمد إلى السيارة، مشيرا إلى أن أحد الملثمين أطلق عليه رصاصتين، ولكنهما لم تصيباه،حيث كانوا يستقلون سيارة تحمل لوحة تسجيل إسرائيلية .
المناضل عبد الستار قاسم امتداد لناجي العلي وبسام الشكعة وفتحي الشقاقي وكل الثائرين، وفي كل مرة كان يتعرض لها الراحل قاسم لمحاولة اغتيال أو اعتداء، يسترجع كلمات ناجي العلي "اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي".
وكان قاسم يعتبر نفسه امتدادا لناجي العلي الذي اغتيل في لندن سنة 1987 لرسوماته الناقدة وفكره المعارض.
كان قاسم مستمدا كلمات صديقه الراحل بسام الشكعة التي كان يكررها دائما "لا شيء يكسرنا" حيث تكمن هذه الكلمات في نهج الشهيد فتحي الشقاقي الذي وصف المثقف قائلا: "المثقّف أوّل من يقاوم، وآخر من ينكسر، وينبغي عليه ألا ينكسر، ففعلا كانت لهذه الكلمات أذان صاغية من قلائل المثقفين المشتبكين بالقلم والكلمة والسلاح.
"لا شيء يكسرنا: ولكن " مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ" أراد لفلسطين اليوم أن تفقد أحد أعمدتها، 72 سنة صُلب الرجل على موقفه، يعلمكم الدرس تلوى الأخر، فأكد لكم على أن محاولات اغتياله واعتقالاته لن تمنعه عن فلسطين، ولكنكم قوم خَتَمَتم عَلَىٰ قلوبكم وعَلَى سمعكم وأبصاركم غِشَاوَةٌ، ولما أَزَاغَ أكثركم عن فلسطين، كان وتدا يصحح ويصوب، فأصابه مرض القهر ومرض العصر حتى حقت كلمة ربكم بالموت. ليس الموت إنما اليتم والفقد ووو.. يا فلسطين.
سار مركب الزمن الموازي، زمن الثورة والمبدئية الفلسطينية في تفاصيل المناضل العروبي والمقاتل الفلسطيني المثقف عبد الستار قاسم، دون أن يهتز من مغريات الواقع التي طرحت عليه، فكانت كلماته المشهورة "لا شيء يعدلنا عن فلسطين"، إلا أن أصابه مرض التهميش المتعمد بعد توقيع اتفاق " أوسلو" زمن بناء الدولة"، التي كان يرفضها شكلا ومضمونا، ويؤكد على أن فلسطين لا تقبل القسمة، وأن العروبة موحدة
إضاءة على حياته
ولد المناضل الفلسطيني عبد الستار توفيق قاسم الخضر بتاريخ 21/سبتمبر عام 1948، أي ولد في أوج معاناة الفلسطيني ونكبته، في بلدة دير الغصون قضاء مدينة طولكرم، فعايش في طفولته مشاهد الآلم والانكسار، ترعرع على صوت الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان، فنمى الوعي الوطني العروبي الفلسطيني لديه، وصب كل اهتمامه وعلمه في خدمة وطنه فلسطين.
فحلق بعيدا ليعلو صوت فلسطين وصوت الثورة، ذهب لمصر لدراسة البكالوريوس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة تخصص العلوم السياسية، ثم حصل على الماجستير في العلوم السياسية من جامعة ولاية كنساس الأمريكية، ثم درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة ميزوري الأمريكية، وحاز على درجة الدكتوراه في الفلسفة السياسية من جامعة ميزوري عام 1977.
بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، عمل في الجامعة الأردنية برتبة أستاذ مساعد عام 1978 وأنهيت خدماته بعد سنة ونصف (عام 1979) لأسباب سياسية على إثر اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، ورجع لفلسطين في أعقاب ذلك ليعمل في جامعة النجاح الوطنية منذ عام 1980، وقدم العديد من المحاضرات في الجامعات الفلسطينية الأخرى.
الثمن الذي دفعه لتمسكه بالحق الفلسطيني
رُحل عبد الستار قاسم من الجامعة الأردنية بسبب مواقفه السياسية وعلى إثر اجتياح جنوب لبنان، وكان أول حامل شهادة دكتوراة يعتقله الاحتلال "الإسرائيلي" عام 1987، اتهمه الاحتلال بالعديد في قضايا التحريض، وتعرض في العصر الحديث للملاحقة والأذى من قبل سلطات عربية وصهيونية، وصمم على عدم الهجرة والبقاء على أرضه العربية.
ويعتبر الراحل قاسم أول أكاديمي في التاريخ يمضي إجازة التفرغ العلمي معتقلا لأسباب سياسية غير معلنة، وذلك سنة 1999/2000، وذلك لدى السلطة الفلسطينية، وأيضا حصل على إجازة تفرغ ثانية من جامعة النجاح عام 2009/2010، وقضاها في جامعة القدس.
فكره المقاوم الوطني العروبي الإسلامي
كان ينظر د.عبد الستار قاسم أن القضية فلسطين قضية قومية ومسؤولية قومية، وأن المشروع الصهيوني يستهدف كل مقومات الأمة العربية وهويتها وتقدمها ونهوضها ووجودها الحي ذاته.
واتفق قاسم مع الدكتور فتحي الشقاقي الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي، أن فلسطين القضية المركزية على المستويين العالمي والإقليمي، وأن كل الجهود يجب أن يتم توجيهها نحو تحرير فلسطين.
كان يرى أن على العرب والمسلمين أن يتركوا القضايا الثانوية خلفهم، وألا تلهيهم الصراعات الداخلية والمصالح القُطرية عن القضية الفلسطينية.
رأى أن التعليم يجب أن يوجه في الساحة العربية نحو تحرير فلسطين من أجل رفع الوعي بالقضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية، ومن المطلوب أيضا النشاط على الساحة الإسلامية من أجل استجماع القوى الإسلامية المختلفة لرفد القضية الفلسطينية والمجاهدين الفلسطينيين.
وأشار قاسم في إحدى مقالاته "فتحي الشقاقي: المجاهد العصامي" أنه يتفق مع تصنيف الشقاقي للقضية الفلسطينية بأنها قضية عربية إسلامية.
يعتبر د.عبد الستار قاسم، من أبرز المعارضين للسلطة الفلسطينية واتفاق "أوسلو" للسلام الموقع عام 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، واعتقل لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية عدة مرات بسبب مواقفه.
ومع أنه لم يمتشق البندقية في الثورة الفلسطينية؛ كون صب جل اهتمامه في إعلاء صوتها والموقف منها ودعمها، إلا أن بعد حسه بأن المنظمة ذاهبة تجاه التسوية، مكّنته فراسته من مغادرة صفوف حركة فتح بعد سنوات قصيرة من انتمائه، ليقضي الرجل سنوات حياته منظّراً ضد "أوسلو" ومؤمناً بالمقاومة و"الاعتماد على الذات"
وتميز قاسم، بطرح رؤية ونظرية الاعتماد على الذات، مؤكدا على أنها ضرورية لتحرير الإرادة السياسية وتحرير رغيف الخبز. وكان دائما القول: "لا يمكن أن تكون حراً وتواجه الاحتلال وأنت تأكل من خير غيرك"، رافضاً الارتهان للخارج بأي حال، بل كان يهاجم المنح والمساعدات الدولية. أما في الجامعة.
وحول رأيه في المثقفين كتب كتاب "قبور المثقفين العرب"، حيث اتسم بجرأة كبيرة في طرحه على نفقته الخاصة. ويشتمل الكتاب على سبعة فصول، ويقع في (145) صفحة من القطع المتوسط.
وصنّف الكاتب في الفصل الأول والذي جاء بعنوان: "قبور المثقفين العرب" أنواعا مختلفة "لقبور المثقفين العرب" ومنها قبر الجبن، وقبر النفاق، وقبر الانعزال، وقبر الهروب، وقبر العشائرية، وقبر الثرثرة، وقبر الغربنة، وقبر الانغلاق. في الفصل الثاني الذي حمل عنوان "أمريكيا وامتطاء المثقفين" انتقد الكاتب المثقفين الذين يسعون لتحقيق مكاسب مادية خاصة، ويبدون استعدادهم لتقديم الخدمات التي تضمن إطالة حكم الظالمين والفاسدين واستمرار تلبية المصالح الخاصة. واصفا السبب وراء انجرار المثقفين لتحقيق المكاسب المادية "بسحر العلف".
هذا الكتاب يضع النقاط على الحروف بما يتعلق بسلوكيات أغلب المثقفين الذين يخونون الثقافة ولا يقومون بواجبهم من أجل معالجة هموم الناس وتحريضهم على الإمساك بزمام الأمور خدمة لأنفسهم والأجيال القادمة.
وصدر لقاسم نحو 25 كتابا وحوالي 130 بحثا علميا إضافة إلى آلاف المقالات بصحف عربية وأجنبية والفلسطينية، ومن أبرز عناوين كتبه "الفلسفة السياسية التقليدية"، و"سقوط ملك الملوك" (حول الثورة الإيرانية)، و "الشهيد عز الدين القسام"، و"المرأة في الفكر الإسلامي"، و"الموجز في القضية الفلسطينية".
يُشهد للراحل قاسم، أنه أول من طالب بتطبيق القوانين المعمول بها في منظمة التحرير الفلسطينية وفي السلطة الفلسطينية، وخصوصا تطبيق القانون الثوري الفلسطيني الذي يقضي بإعدام كل من يتخابر مع "إسرائيل" أو يتعاون معها أو يلقي سلاحه بطريقة شائنة… إلخ. حيث اعتقل قاسم بعد مطالبته هذه لدى الاجهزة الأمنية الفلسطينية.
وصايا قاسم للجهاد الإسلامي
في ذكرى انطلاقة الحركة 32، قال د. عبد الستار قاسم في إحدى مقابلاته، أن الجهاد عنصر ورقم أساسي لا يمكن أن يستهان بقدراته سواء الدفاعية والهجومية من الناحية العسكرية ليست في فلسطين فقط بل على مستوى الإقليم، قائلًا: "على الساحة العربية الذي يتصدر الموقف اليوم جهتين فقط هما المقاومة الفلسطينية في غزة والمقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، والدول العربية اليوم تساوي صفر على الشمال أمام هذه المقاومة".
وأشار إلى أن "أهم ما يميز حركة الجهاد هو عدم تدخلها في اي اقتتال داخلي او قضايا خارجية وحافظت على ابقاء بوصلتها موجهة نحو العدو واصرت على تطوير ذاتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وهذا الأمر جعلها حركة تحظى باجماع وطني وتكبر في قلوب الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني خاصة والشعوب العربية عامة".
وكان البرفسور الراحل عبد الستار قاسم طالب قيادة حركة الجهاد الاسلامي بالثبات على المبادئ والاستمرار في إحراز الإنجازات ، حيث في كل محطة كان يؤكد على ضرورة تفعيل المقاومة في الضفة الغربية قائلًا: "يجب أن تفعل حركة الجهاد الإسلامي كل جهد من أجل عدم ترك الضفة الغربية تحت سطوة السلطة الفلسطينية واجهزتها الأمنية، وكان يطالب حركة الجهاد أن تبادر في الغاء الحالة المرضية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الضفة من خلال اعادة احياء العمل المقاوم بقوة.
وحول علاقة الجهاد بالسلطة الفلسطينية، كان يرأى قاسم، أن الاقتراب من فريق أسلو يعني تخلي حركة الجهاد عن مبادئ مؤسسها فتحي الشقاقي في حماية المشروع الوطني الموجه ضد الاحتلال الإسرائيلي.
نهاية بطل مقدام ..
رحل البروفيسور عبد الستار قاسم بعد صراعه مع فيروس كورونا، الذي قاومه كما قاوم فيروس الاحتلال والفساد والخيانة المستشري في جسد الأمة، حتى استقوى عليه مساء يوم الإثنين 1/فبراير/2021، وأراد القدر أن يعلمنا بأن حياة الثائرين تدون و تأرشف، فربما يأتي يوما من يكون عبد الستار قاسم الثائر من جديد.