تتزاحم أحداث أيلول في الذاكرة العربية والفلسطينية الجمعية، من محطات سوداء قاتمة في مجزرة صبرا وشاتيلا، واتفاقيات أوسلو، وصولاً إلى أيلول 2020 وتوقيع اتفاقيات تطبيع الأسرلة، إلى محطات مضيئة مشرقة بتأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إلى انتفاضة الأقصى وانسحاب الكيان الصهيوني من قطاع غزة حتى أيلول 2020 الذي أسدل ستاره وكيان الاحتلال الصهيوني على اجر ونص، ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو مع أجهزته الإعلامية والاستخبارية يتلقى صفعة جديدة من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وعلى الهواء مباشرة ليثبت كذبه ويبطل مفاعيل هدفه في المسرحية الهزلية التي استعرضها من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إنه شهر الانكسارات والمفاوضات والانتصارات وفي ما يلي أهمّ محطاته بتفصيل موجز:
أولاً– شهد العامان 1970 و1971 صراعاً وتوتراً في العلاقة بين السلطة الأردنية والفصائل الفلسطينية التي اضطرتها نكسة حزيران عام 1967 للتراجع إلى شرق نهر الأردن بانتظار فرصة استجماع الأنفاس العربية باستعادة فلسطين، فانتهت بنهر من الدماء العربية بلغت ذروتها في شهر أيلول عام 1970 «أيلول الأسود» حيث تحوّل الخلاف بين إخوة الدم إلى مواجهة مسلحة لخصها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بقوله «هذه مؤامرة، من كان وراءها وخطط لها ودفع إليها هو وكالة المخابرات المركزية الأميركية»، أو بصورة أدقّ، إنّ الرجل الذي لعب دوراً مركزياً في وضع الخطة الأميركية لتفجير الوضع في الأردن، هو مستشار الأمن القومي آنذاك الداهية هنري كيسنجر، بوصفة سحرية لضرب المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني بحجر واحد، فتحوّل المشهد إلى نهر من الدماء العربية، وانتهت المواجهة بإخراج الفصائل الفلسطينية من الأردن وانتقالها إلى لبنان حيث تجدّدت الحروب ووقعت مجازر أخرى شهيرة في التاريخ الإنساني حملت توقيع جيش كيان العدو الصهيوني.
ثانياً– بعد اجتياح جيش الكيان الصهيوني بيروت عام 1982 بهدف حماية الحدود الشمالية لكيانه المحتلّ من هجمات الفدائيين الفلسطينيين واقتطاع شريط من الأراضي اللبنانية على طول الحدود مع فلسطين المحتلة بعمق يتراوح بين 10 و 30 كلم، والسيطرة على نهر الليطاني ومياهه، وإنهاء المقاومة الفلسطينية في لبنان، والقضاء على أكبر عدد من الشعب الفلسطيني، بدأت أحداث المجزرة الأليمة في مخيمي «صبرا وشاتيلا» قبل غروب يوم السادس عشر من أيلول عام 1982، عندما فرض جيش الاحتلال الصهيوني حصاراً مشدّداً على المخيمين، ليسهل عملية اقتحامهما من قبل ميليشيات لبنانية مسلحة موالية له، أودت بحياة أكثر من ثلاثة آلاف معظمهم فلسطينيون على مدار 48 ساعة بمشاهد مروعة – من الذبح وبقر البطون الحوامل واغتصاب النساء– لا تزال ماثلة كذكريات قاسية وقاحلة في الوجدان الجمعي العربي والفلسطيني، وبوصمة عار على جبين الإنسانية.
ثالثاً– تلا تلك المجزرة بعدة أيام عملية الويمبي في 24 أيلول عام 1982 قام بها البطل القومي خالد علوان والذي بلغ من العمر 19 عاماً، حيث وصل إلى مقهى الويمبي في شارع الحمراء أحد الأحياء الغربية لمدينة بيروت، وفتح النار على الضباط والجنود الصهاينة في الويمبي فقتل ضابطاً صهيونياً بمسدسه وأصاب جنديين صهيونيين يرافقان الضابط، فأصيب أحدهما في صدره والآخر في الرقبة، وأعلنت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية مسؤوليتها عن العملية، التي تميّزت بأهمية رمزية قوية حيث مثلت بداية الأعمال المقاومة ضدّ قوات الاحتلال الصهيوني في بيروت، ودفعت بسكان المدينة الآخرين للمشاركة في المواجهات مع قوات الاحتلال الصهيوني، واستمرت هذه الأعمال حتى انسحاب القوات الصهيونية من العاصمة بيروت في 27 و28 أيلول عام 1982 تحت تأثير الضغوط السياسية الخارجية، وضربات المقاومة الوطنية اللبنانية، التي أنزلت بها هي وقوات مشاة الأسطول الأميركي «المارينز» والقوات الفرنسية خسائر فادحة بعمليات استشهادية، فانقلبت الانتصارات الصهيونية مأزقاً، كان أول ضحاياه هم قادة الحرب في كيان العدو الصهيوني، إذ في أوائل عام 1984 اعتزل مناحيم بيغن بعد عدة أشهر من الاعتكاف، وذكر أنه أصيب بالإحباط بسبب فشل سياسته، وأجبر وزير الدفاع أرييل شارون على الاستقالة بعد أن أدانته لجنة قضائية «لجنة كاهان»، وعزل رئيس أركان العدو الصهيوني رفائيل ايتان، لينسحب جيش كيان العدو الصهيوني في نهاية عام 1985 من معظم الأراضي التي احتلها، وبقي الشريط الحدودي الذي تحرّر في عام 2000.
رابعاً– تمّ توقيع اتفاقية أوسلو1 في 13 أيلول عام 1993، وهي أول اتفاقية مباشرة بين الكيان الصهيوني ممثلاً بوزير خارجيته آنذاك شمعون بيريز ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بأمين سر اللجنة التنفيذية محمود عباس، وقد التزمت منظمة التحرير الفلسطينية وعلى لسان رئيسها ياسر عرفات بـ «حق» الكيان الصهيوني بدولة (إسرائيل) على 78٪ من الأراضي الفلسطينية «أي كلّ فلسطين ما عدا الضفة الغربية وقطاع غزة» للعيش بـ» أمن وسلام والوصول إلى حلّ لكلّ القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات، وطبقاً لهذه الاتفاقية أدانت منظمة التحرير الفلسطينية استخدام الإرهاب وأعمال العنف وأخذت على عاتقها إلزام كلّ عناصر أفراد منظمة التحرير بها، ومنع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين، فأدانت حالة المقاومة المسلحة، وحذفت البنود التي تتعلق بها في ميثاقها الوطني كالعمل المسلح وتدمير (إسرائيل)، كما اعترف الكيان الصهيوني بمنظمة التحرير الفلسطينية بأنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وبحق الفلسطينيين بإقامة حكم ذاتي «وليس دولة مستقلة ذات سيادة» على الأراضي التي ينسحب منها من الضفة الغربية وقطاع غزة على مراحل خلال خمس سنوات، مع التأكيد أنّ الكيان الصهيوني هو المسؤول عن أمن منطقة الحكم الذاتي من أيّ عدوان خارجي «لا يوجد جيش فلسطيني للسلطة الفلسطينية»، وبعد ثلاث سنوات تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بشأن القدس «من يتحكم بالقدس الشرقية والغربية والأماكن المقدسة وساكنيها إلخ…»، واللاجئون «حق العودة وحق التعويض إلخ…» والمستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة «هل تفكك أم تبقى أو تزيد زيادة طبيعية، ومن يحميها السلطة أم الجيش الصهيوني»، الترتيبات الأمنية «كمية القوات والأسلحة المسموح بها داخل أراضي الحكم الذاتي، والتعاون والتنسيق بين شرطة السلطة الفلسطينية والجيش الصهيوني، مما أدّى إلى انقسام وانشقاق بين الفصائل الفلسطينية، ففي الوقت الذي مثلت حركة فتح الفلسطينيين في المفاوضات وقبلت إعلان المبادئ، اعترضت عليها كلّ من حركة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وجبهة التحرير الفلسطينية فاعتبروه اتفاقاً باطلاً ووصفوه بـ «المشؤوم» كونه أعطى الاحتلال الحق باغتصاب 78٪ من أرض فلسطين التاريخية.
خامساً– أما اتفاقية أوسلو2 بشأن الاتفاق الانتقالي للضفة الغربية وقطاع غزة أو اتفاقية طابا فقد تمّ التوقيع عليها في مدينة طابا المصرية في شبه جزيرة سيناء من قبل الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية في 24 أيلول عام 1995وبعد أربعة أيام في 28 أيلول تمّ التوقيع الرسمي على الاتفاقية في واشنطن من قبل رئيس وزراء حكومة العدو الصهيوني إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، ووضعت الاتفاقية تصوّراّ لتأسيس حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الأراضي الفلسطينية، لكنها لم تتضمّن وعود بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل أسست أوسلو2 المناطق «أ، ب، ج» في الضفة الغربية، ومنحت السلطة الفلسطينية بعض السلطات والمسؤوليات المحدودة في المنطقة «أ» و»ب» مع إمكانية عقد مفاوضات حول التسوية النهائية حسب قراري مجلس الأمن رقم «242 و 338»، ولم تتضمّن الاتفاقية ما يحدّ من استمرار عملية بناء المستوطنات في الضفة الغربية عامة وفي القدس بصفة خاصة، علماً أنه سبقت هذه الاتفاقية مجموعة أحداث دامية تركت أثرها عليها، منها مجزرة الحرم الإبراهيمي، وعدة عمليات فدائية هزت عمق المجتمع الصهيوني، وأعقبها اغتيال رئيس الوزراء الصهيوني إسحق رابين.
سادساً– بدءاً من نهاية عام 1999 ساد شعور بالإحباط لدى الفلسطينيين لانتهاء الفترة المقررة لتطبيق الحلّ النهائي بحسب اتفاقيات أوسلو، والمماطلة وجمود المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والصهيوني، واستمرار الصهاينة بسياسة الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات لمناطق السلطة الفلسطينية ورفض الأفراج عن الأسرى الفلسطينيين، بالإضافة إلى استمرار بناء المستوطنات واستبعاد عودة اللاجئين، واستبعاد الانسحاب لحدود حزيران 1967، مما جعل الفلسطينيين متيقنين بعدم جدوى عملية السلام للوصول إلى تحقيق الاستقلال الوطني، وفي ظلّ هذا الشعور العام بالإحباط والاحتقان السياسي، قام رئيس وزراء كيان الاحتلال السابق أرييل شارون باقتحام المسجد الأقصى وتجوّل في ساحاته مصرّحاً أنّ الحرم القدسي سيبقى منطقة (إسرائيلية)، مما أثار استفزاز المصلين الفلسطينيين، فاندلعت المواجهات بين المصلين وجنود الاحتلال في ساحات المسجد الأقصى، فارتقى سبعة شهداء وجرح المئات وأصيب 13 جندي صهيوني وكانت بداية أعمال الانتفاضة التي أدّت إلى تطوّر قدرات وإمكانيات الفصائل الفلسطينية وخاصة بصنع الصواريخ (صاروخ قسام، قدس4، صمود، أقصى 103، ناصر)، وبناء جدار الفصل العنصري الصهيوني، وتحطيم مقولة الجيش الذي لا يُقهر في معركة مخيم جنين الذي قتل فيه 58 جندي صهيوني وجرح 142، بالإضافة إلى ضرب السياحة واقتصاد المستوطنات الصهيونية، واغتيال وزير السياحة الصهيوني (زئيفي) على يد أعضاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
سابعاً– تحت ضغط الواقع الأمني المتردّي والعجز في اخماد أعمال المقاومة المتصاعدة في قطاع غزة والضفة الغربية خاصة ما عرف بحرب الأنفاق ضدّ مواقع حصينة للجيش الصهيوني وارتفاع الكلفة الأمنية على حكومة الاحتلال، وخاصة بعد بناء جدار الفصل العنصري، قرر رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك أرييل شارون في 11 أيلول عام 2005 الانسحاب من 25 مستوطنة في قطاع غزة والضفة الغربية ضمن عملية أطلق عليها فكّ الارتباط مع الفلسطينيين بعد احتلال للقطاع استمرّ لمدة 38 عاماً.
وأخيراً تتضارب أحداث أيلول 2020 بين اتفاقيات تطبيع الأسرلة أو تحالف الحرب العسكري الأمني الاستخباري بين الأنظمة العربية الرجعية المطبعة في الإمارات والبحرين، وكيان الاحتلال الصهيوني ضدّ إيران وبالتالي محور حلف المقاومة، وتنصل جامعة الدول العربية من مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، في وقت تتحد فيها كلمة الفصائل الفلسطينية على طريق تنامي مقاومة أو انتفاضة جديدة في الأراضي الفلسطينية، وليسدل أيلول 2020 الستار على مزيداً من فضائح رئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو المأزوم داخلياً وخارجياً هو وكيانه الغاصب الذي لا زال يقف على اجر ونص بعد فشله باستدراج حزب الله إلى عملية ردّ محدودة، أو تفجير الحاضنة الشعبية له في لبنان، وبالتالي تغيير قواعد الردع والاشتباك التي كرّسها وأرسى دعائمها محور حلف المقاومة.