فجأةً، عادت الحياة إلى ملف المصالحة. بدأت القصة بلقاءين عقدهما وفد من "فتح"، ضم كلا من صائب عريقات وعزام الأحمد ومحمد شتيّة، مع خالد مشعل، على هامش مشاركتهم في مؤتمر نظّمه المركز العربي في الدوحة.
بُحث في هذين اللقاءين تطبيق اتفاق المصالحة، وتم التوافق على تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة بعد ستة أشهر، وأُزِيلت بذلك العقدة المعلنة لعدم تطبيق الاتفاق، حيث كان الرئيس يصر على ضرورة صدور مرسومَين رئاسيَين في نفس الوقت، ينص الأول على تشكيل الحكومة، بينما ينص الثاني على إجراء الانتخابات بعد ثلاثة أشهر.
بعد لقاءات الدوّحة كرّت السبحة، وعرفنا عن اتصالات هاتفيّة بين مشعل وعباس، وهنيّة وعباس، واتصالات بين الأحمد وأبو مرزوق وهنيّة. وفي هذه الأثناء عقد جبريل الرجوب لقاءً مع مشعل تم فيه تأكيد الاتفاق، والإشارة إلى ضرورة الاتفاق على البرنامج السياسي، فيما فُسِّر بأن الرئيس يريد ضمانات من "حماس" بدعم موقفه في المفاوضات، أو على الأقل عدم معارضته بحدة. والأنظار الآن مصوّبة على الزيارة المرتقبة للأحمد إلى غزة، التي من المفترض أن يتم فيها وضع اللمسات الأخيرة قبل الشروع في التطبيق.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا، فجأةً، عادت الحياة إلى الاتصالات من أجل تطبيق اتفاق المصالحة؟
الحق يجب أن يقال، وهو أن "حماس" بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، وبعد إحكام الحصار على قطاع غزة، وتدهور علاقات "حماس" بالنظام المصري الجديد أبدت مرونة، وطالبت، بإلحاح، بتطبيق اتفاق المصالحة، وأطلقت مبادرة على لسان هنيّة تضمنت دعوة الفصائل إلى المشاركة في حكومة "حماس"، وإبداء الاستعداد لتنظيم انتخابات نقابيّة وبلديّة في قطاع غزة، وصولًا إلى إطلاق سراح المعتقلين والسماح بعودة الهاربين أو المطاردين.
إن الذي فعّل ملف المصالحة أن جهود جون كيري وصلت أو تقترب من لحظة الحقيقة. اللحظة التي يجب أن تتخذ فيها القرارات المصيريّة بقبول أو رفض مقترحات كيري حول "اتفاق الإطار" وتمديد المفاوضات، وما يعنيه ذلك من وضع مرجعيّة جديدة بعيدة عن المرجعيات الوطنيّة والدوليّة وتنتقص من الحقوق الوطنيّة.
إن الرئيس بحاجة إلى المصالحة أو تفعيلها، سواء تم الوصول إلى "اتفاق إطار" أو إلى فشل وانهيار المفاوضات وجهود كيري. ففي حالة النجاح هناك حاجة لغطاء فلسطيني، خصوصًا أن الخلافات واسعة داخل "فتح" والمنظمة حول المفاوضات وكيفيّة التعاطي مع جهود كيري. أما "حماس" فمقابل إنهاء أو تخفيف أزمتها غير المسبوقة قد تغض النظر عن الموافقة على "اتفاق الإطار" وتمديد المفاوضات، والتبرير لذلك سهلًا بأن المفاوضات لن تصل إلى اتفاق بسبب التعنت الإسرائيلي والانحياز الأميركي لإسرائيل.
وفي حالة فشل كيري، فهناك حاجة فلسطينيّة للوحدة لمواجهة تداعيات الفشل، وما يمكن أن يؤدي إليه من عقوبات وضغوطات ومجابهات. ففي الحالة الاًولى يمكن أن تغض الإدارة الأميركيّة، وربما إسرائيل، النظر عن إتمام المصالحة، لأنها تغطي على استمرار العمليّة السياسيّة. أما في حالة الفشل فستقوم كل من واشنطن وتل أبيب باستخدام المصالحة لـ"شيطنة" الفلسطينيين وإظهارهم أنهم "إرهابيون" وضد السلام.
إذا كانت عقدة الاتفاق على إجراء الانتخابات بعد ثلاثة أشهر أو ستة أشهر هي العقدة الحقيقيّة التي حالت دون تحقيق المصالحة، فها هي قد أزيلت من الطريق. ولكن الجميع أو الكثيرين يدركون أنها ليست العقدة، وإنما هناك أسباب إسرائيليّة وأميركيّة وعربيّة وإقليميّة وفلسطينيّة، أهمّها أن "فتح" و"حماس" تتنازعان على السلطة والمنظمة والقرار الفلسطيني، وينظر كل منهما للمصالحة بمناظير المصالح الفئويّة والفصائليّة، بقدر ما تقربه من تحقيق هدفه بالاستمرار بقيادة الفلسطينيين (فتح)، أو القفز لقيادتهم (حماس). وعندما تظهر تطورات تسمح بمراهنة طرف على تحقيق هدفه من دون مصالحة، مثلما حصل عندما راهنت "حماس" على صعود الإسلام السياسي، وأنها يمكن أن تنتظر لتقود الفلسطينيين من دون مصالحة. ومثلما راهنت أيضًا "فتح" على سقوط الإخوان المسلمين في مصر، وأن هذا الأمر سيؤدي إلى انهيار "حماس"، فلا "فتح" انهارت في مرحلة صعود الإخوان، ومع استمرار وصول برنامجها برنامج التسوية إلى طريق مسدود، ولا "حماس" انهارت بسقوط الإخوان ووصول برنامج المقاومة التي تتبناه إلى طريق مسدود، حين أصبحت المقاومة وسيلة للدفاع عن النفس من العدوان الإسرائيلي، وللحفاظ على السلطة في غزة، بعد أن كان التبرير لحدوث الانقلاب أو الحسم العسكري أنه جاء من أجل حماية المقاومة.
هناك فكرة رددها عزام الأحمد مؤخرًا مفادها أن الرئيس يمكن أن يصدر مرسومًا بإجراء الانتخابات في موعد محدد بعد ستة أشهر، تحديدًا بالترافق مع تشكيل الحكومة، أو يُترك له تحديد هذا الموعد.
إن هذا الموقف إشارة تحذير أولى بأن تحديد موعد الانتخابات ليس هو العقدة الحقيقيّة، وأن إجراء الانتخابات له وظيفة سياسيّة وجزء من عمليّة سياسيّة لا يقرر بشأنها الفلسطينيون لوحدهم، وإنما لإسرائيل وأميركا حصة رئيسة باتخاذ القرار، وللأطراف العربيّة والإقليميّة والدوليّة حصص أخرى كذلك.
لا يمكن إجراء الانتخابات في القريب العاجل على الأقل إذا انهارت المفاوضات، فإسرائيل لن تساعد على تقوية الفلسطينيين عن طريق تسهيل وحدتهم، ولا من خلال إعطاء هذه الوحدة شرعيّة شعبيّة عن طريق صناديق الاقتراع. فالانتخابات مطلوبة من إسرائيل وأميريكا فقط لإعطاء الشرعيّة للعمليّة السياسيّة التي تستفيدان منها أساسًا.
إن لحظة الحقيقة تقترب وتستدعي اتخاذ قرار فلسطيني بتغيير المسار كليًّا، وهذا يقتضى تغيير قواعد اللعبة واللاعبين المحليين والدوليين. فلا يمكن الاستمرار في المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة بعيدًا عن المرجعيات الوطنيّة والدوليّة وعن الأمم المتحدة واللاعبين الدوليين الآخرين، ولا يمكن الاستمرار باستخدام التهديد بالمصالحة والمقاومة الشعبيّة واستكمال التوجه الدولي كتكتيك؛ يستهدف تارة الضغط من أجل ستئناف المفاوضات، وتارة أخرى لتحسين شروطها. لقد أثبتت التجربة أن هذه سياسة بائسة، فالمفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى والضعف والانقسام الفلسطيني وتردي الأوضاع العربيّة ومن دون وقف الاستيطان ولا التزام بمرجعيّة واضحة وملزمة؛ لا يمكن أن تؤدي سوى إلى إعطاء إسرائيل الوقت اللازم لاستكمال تطبيق مخططاتها الاستيطانيّة والاستعماريّة، وتحييد العالم، وقطع الطريق على الخيارات والبدائل الأخرى.
لا يمكن أن تستمر "فتح" أو فرد أو مجموعة أفراد بالاستحواذ على القرار الفلسطيني باسم فتح في ظل شلل المنظمة وغياب المؤسسة على كل المستويات داخل "فتح" والمنظمة، وفي ظل الانقسام. فالضرورة تقتضي إنهاء الانفراد بالمؤسسة والقرار الفلسطيني، وإيجاد آليّة بعد إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة تقوم على المشاركة السياسيّة الحقيقيّة، بما يسمح بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني.
انتهى الوقت الذي كان يستطيع فيه الفرد مهما كان أو الفصيل مهما كان تاريخه أن يقود السفينة الفلسطينيّة إلى بر الأمان بمفرده، ففلسطين تواجه تحديات خطيرة وتحتاج إلى كل طاقات وكفاءات الشعب الفلسطيني وقواه الحيّة أينما تواجدت؛ حتى تبقى حيّة وتواصل السير نحو تحقيق الانتصار.