بقلم: د. وليد القططي
"إنَّ السلطة الفلسطينية قررت أنها لن تعود لمربع العنف"، هذا التصريح لأحد كبار مسئولي السلطة جاء في سياق مقابلة لقناة (كان) الإسرائيلية الرسمية، عندما سُئِل عن رد السلطة على مخطط الضم في الضفة الغربية، المقابلة حملت مضامين عديدة أهمها هو الخلط المقصود بين المقاومة بمعانيها الإيجابية المرتبطة بالكفاح والنضال والثورة، والعنف بمعانيه السلبية المرتبط بالدم والقتل والتدمير، وبذلك يُخرج العنف من معناه النضالي ومضمونه الوطني وبُعده القانوني، وسياقة الثوري، ويستحضر أنواع العنف الديني والمذهبي والعرقي... ليظل مفهوم (مربع العنف) السلبي هو المهيمن على المشهد الذهني والواقعي، من أجل طمس مفهوم (المقاومة) الإيجابي السائد في العقل الجمعي الفلسطيني منذ بداية الحركة الوطنية الفلسطينية وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
(مربع العنف) الذي لن تعود إليه السلطة الفلسطينية – حسب المسئول الكبير- غير محدد المرحلة الزمنية للعنف الفلسطيني، فهل هو هبة أو انتفاضة القدس التي غلب عليها طابع العمليات الفدائية الفردية كالطعن والدهس، أم انتفاضة الأقصى التي بدأت شعبية وانتهت مُسلّحة، أم انتفاضة الحجارة التي انتهت بإنشاء السلطة الفلسطينية التي أصبح فيها مسئولاً كبيراً يُهاجم العنف الذي جاء به. ربما أراد المسؤول الكبير أن يُحذّر من العودة لمرحلة الكفاح المُسلّح الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن ثم لبنان، مُستحضراً سلبيات العنف الثوري عندما تحوّل الكفاح المُسلّح إلى نوع من السلطة اُستخدمت فيها القوة العسكرية للسيطرة على المخيمات الفلسطينية وحسم الصراع بين المنظمات الفلسطينية حسب موازين القوة على الأرض. ومُستدعياً تسبب القواعد العسكرية الثابتة للمقاومة في مشاكل مع الدول المُضيفة، وتحوّلها إلى أهداف سهلة مكن العدو من ضربها، وربما أراد عندما تحدّث عن (مربع العنف) إشكاليات المقاومة عندما تكون جزءاً من السلطة أو تتولّى السلطة لتقع تحت ضغط توفير متطلبات الشعب الحياتية. وتضطر إلى ضبط إيقاع المقاومة وفق استحقاقات السلطة.
وطالما أنَّه لم يُحدد أي مرحلة من (مربع العنف) الذي لن تعود السلطة الفلسطينية إليه، ولم يتحدّث عن مربع العنف الإسرائيلي إن كان سيقف أم سيتواصل كجزء من هوية الكيان وطبيعته منذ نشأته وقبلها وبعدها، فسنأخذ تصريحه على المقاومة في كل مراحلها، منذ بداية الثورة الفلسطينية المعاصرة بعد نشأة منظمة التحرير الفلسطينية، في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، التي جاء في ميثاقها الوطني عن الكفاح المُسلّح أو (مربع العنف) بالمفهوم الانبطاحي الجديد " الكفاح المُسلّح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً، ويؤكد الشعب الفلسطيني تصميمه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح، والسير قدماً نحو الثورة الشعبية المسلحة، لتحرير وطنه والعودة إليه"، وهو الأسلوب الذي تبنته كل فصائل المنظمة آنذاك قبل ظهور حركتي الجهاد وحماس، فكان الكفاح المُسلّح العامل الأساسي في تجسيد الهوية الوطنية الفلسطينية، وتحويل القضية الفلسطينية من كونها قضية لاجئين إنسانية إلى قضية وطنية تحررية، وإبقاء القضية حية على المستويات الوطنية والعربية والإسلامية والدولية، وهذا لم يكن ليحدث لولا المقاومة أو مربع العنف الثوري.
ومع مرور الزمن العربي الرديء، وبفعل عوامل التعرية الوطنية الفلسطينية، وبتأثير مفاهيم الواقعية الثورية والنظريات السياسية الانتهازية، لم يبق الكفاح المُسلّح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، فأُضيف إليه طُرق أخرى إلى جانبه، فأصبح طريقاً رئيسياً، ثم أحد الأساليب والطرق الكفاحية، حتى أُزيح إلى الصفوف الخلفية، وصولاً إلى استبعاده كطريق للتحرير، تمهيداً لنبذه وتجريمه كما حدث في اتفاقية أوسلو وتبعاتها، لنجد أخيراً من يُحّذر من العودة إلى (مربع العنف) وكأنه رجس من عمل الشيطان، وليس حق طبيعي للشعب الواقع تحت الاحتلال، اكتسب شرعيته من وجود المحتل نفسه على الأرض الفلسطينية، باعتباره يستند إلى حقين طبيعيين للشعوب وهما حق الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير، لذلك فقد أيدته كل المواثيق الدولية وأحكام القانون الدولي، الذي أعطى الحق لسكان الأراضي المُحتلة في الثورة على سلطات الاحتلال ومقاومتها، ولهذا فإن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال حق ثابت وأصيل وليس مُجرد سلوك يُدرج في (مربع العنف).
إنَّ المقاومة وفي مقدمتها الكفاح المُسلّح حق طبيعي للشعب الفلسطيني من أجل تحرير أرضه المُحتلة والعودة إلى وطنه المسلوب، فهو ينسجم مع منطق الواقع وقوانين التاريخ، ويتسق مع خبرات الأمة في التحرر من الاستعمار، ويتفق مع تجارب حركات التحرير الوطني العالمية، فنهج الجهاد والمقاومة هو النهج الأكثر واقعية والأجدى من أجل التحرير، خاصة ونحن خارجون من تجربة فاشلة عمرها أكثر من ربع قرن من المفاوضات العبثية مع العدو المُحتل، وقد تأكد ذلك في تحرير المقاومة اللبنانية لجنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني، وهزيمته في حرب تموز مرة أخرى، وفي تحرير المقاومة الفلسطينية لقطاع غزة من جيش الاحتلال ومستوطنيه رغم بقائه تحت الحصار، ثم منعه من تحقيق النصر في ثلاثة حروب لاحقة، وكلمة السر في هذا التحرير اللبناني والفلسطيني هو جعل الاحتلال والاستيطان باهظ الثمن ومرتفع الكُلفة البشرية والمادية، لوضعه ف مأزق أمني هو جزء من مأزقه الوجودي الأكثر عمقاً.
كلمة السر في التجربتين اللبنانية والفلسطينية يُمكن استخدامها في الضفة الغربية بنفس الطريقة، وهي أن نجعل للاحتلال والاستيطان ثمناً باهظاً بالمقاومة التي تستنزف الاحتلال والاستيطان بشرياً ومادياً عن طريق إبقاء حالة الاشتباك والمشاغلة معه، ليصل إلى مأزقه الأمني المرتبط بمأزقه الوجودي، ليكون أمام خيارين: إمّا الانسحاب من الضفة والمحافظة على وجود دولته في حدود النكبة إلى حين، أو الذهاب نحو المجهول بمواجهة المخاطر الأمنية والديموغرافية المؤكدة من بقاء الضفة في حدود دولة الكيان، بما يحمل ذلك من تهديد وجودي للكيان الصهيوني، والمقاومة كلمة السر في التحرير لا بد أن تشق طريقها على هدى وبصيرة، وفي ضوء المشروع الوطني الفلسطيني القائم على التحرير والعودة والاستقلال، بعد أن تكنس من طريقها كل المفاهيم الدخيلة على الثورة الفلسطينية التي أفرزت مصطلحات غريبة ومُعادية للثورة مثل (مربع العنف) وغيرها.