بقلم/ د. أحمد الشقاقي
تصعب الكتابة عن رجل بحجم الوطن... رمضان شلح ليس اسماً عادياً في سجل القادة الفلسطينيين، لكنه أرسى برحلة جهاده الطويلة مفاهيم وطنية ومبادئ سياسية من طراز خاص، وبخصوصية إسلامية فلسطينية تجاوز بها حدود الحزب والتنظيم إلى مساحات أرحب، جعلت منه محط إجماع فلسطيني وعربي وإسلامي، نستطيع تلمسه في الكثير من الشواهد أهمها حجم التفاعل مع وفاته.
الرجل الذي أفنى حياته يجمع الفكر والمقاومة وفلسطين لم يجعل نفسه رهناً لتقاليد العمل السياسي الفلسطيني، وقدم الكثير لتنظيمه ولحالتنا الوطنية، ويمكن تلمس عنوان عريض لذلك في مبادرته للخروج من المأزق الوطني التي قدمها عام 2016، والتي عكست عملاً نوعياً لتحريك الحالة الداخلية الفلسطينية بشكل يضمن انتقالها استراتيجياً إلى مربع التوافق الفلسطيني بعيداً عن قيود الواقع التي ألزمتنا بها عملية التسوية، وبشكل يجعلها اليوم وبعد أربع سنوات الأكثر استجابة لظروف الحالة السياسية الفلسطينية، بعد أن أدرك فريق فلسطيني أنه لم يتبق أي فرصة لخيار التسوية، وبعيداً عن النقاش في تفاصيل مبادرة الراحل التي ينبغي أن تطرح للنقاش في الأروقة السياسة الفلسطينية للنقاش مجددا حولها للتوافق عليها أو التأسيس عليها للخروج بحل للواقع الفلسطيني المأزوم، أجد نفسي أعود لأكتب في علاقة الشهيدين د. فتحي الشقاقي (أبو ابراهيم) ود. رمضان شلح (أبو عبد الله).
إن أكثر ما يدفعني للكتابة حول الشهيدين هو مشروعهما الكبير الذي التقوا عليه والذي أزهر مقاومة وعنفواناً نراهن عليه كثيرا في معركة التحرير والعودة، بعد أن تملك الإحباط الكثير من أبناء جلدتنا، نجد هذه النماذج تنير الطريق وترسم الأمل. لكن هذه العلاقة ورغم قوتها وما أثمرته من نتاج وطني وثقافي وسياسي إلا أنها ستكون دافعاً لجيلٍ شاب يبحث عن القدوة والنموذج المرشد، وهو ما يمكن أن نضيء عليه في أكثر من محطة وشاهد.
الشقاقي وشلح شابان يافعان جمعتها الغربة لأول مرة في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن شرارة اللقاء في غزة لكن كان القدر يتقصد أن يقدم عبرته لهذا الجيل في أن الغربة للفلسطيني لها خصوصيتها، التي جعلت منهما باحثين عن الحقيقة وعن الوطن في كل تفاصيل حياتهما. سكنهما الَهم رغم أنهما لم يتجاوزا العقد الثالث من عمرهما.
اجتمع أبو ابراهيم وأبو عبد الله في مدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية ولم يكن اللقاء الأول بينهما يبحث في فلسطين أو في الحراك الإسلامي، لكن ما جمعهما للمرة الأولى كان الأدب والثقافة ، وإعجابهما المتبادل بشخصية كل منهما بالآخر كان التذوق الأدبي سببه ومرده.
تعززت العلاقة وتطورت وحظيت بتهافت ثلة من الأطهار الذين شاركوهما مجلسهما من طلاب الجامعات المصرية وبدأت البذرة تترعرع وتأخذ نصيبها حتى اشتد عودها اليوم وأصبحت تنظيماً مقاوماً يدرك الاحتلال حجمه وقدرته، ويعلم الصديق والحليف وضوح رؤيته وثبات موقفه في القضايا الوطنية.
أسسا منذ اللحظة الأولى برامج عمل وآليات تفكير ونقاش واستطاعا ورغم صغر سنهما أن يعطيا مشروعهما الإخلاص وينتظرا النتيجة المؤكدة في قدرتهما على المواجهة وصناعة النصر، وجمعا معادلة الإسلام وفلسطين في بوتقة فريدة سجل لهما فيها السبق والتميز.
من لطائف القدر أن زرت مدينة اللقاء الأول قبل عشر سنوات وبحثت في آثارهما هناك لأجدها في حرم الجامعة، وفي نفوس الأساتذة المحاضرين، وفي افتخار شباب الغربة الذين يكملون المشوار، في تساؤلات ضابط الأمن الذي يعلم أن قائداً وطنياً فلسطينياً أسس حركة نضال فلسطينية على هذه الجغرافيا.
كل هذه الغربة التي عاشها( الشقاقي وشلح)، وطوال رحلة كفاحهما وجهادهما، إلا أنهما أعادوا للوطن رجالاً قدمت أرواحها وضبطت إيقاع عمل مقاومة أرهبت أعداء الله والوطن. عندما أرى شوارع غزة وهي تحتشد لتقديم واجب العزاء في رحيل مفكرها أبو عبد الله واسترجع شريط لقائه بالشقاقي المؤسس أتيقن بأن ضريبة التحرير والمقاومة يدفع أصحابها ثمنها بشكل مشرف.
تحضرني تفاصيل كثيرة لطالب يدرس الطب وآخر يتعلم الاقتصاد ويعشقان الوطن، وأتصور أن ما جمعهما مع الثلة المجاهدة الأولى شكل نسقاً لمثابرين تختلف تخصصاتهما وتلتقي لتكون حالة غير عادية وقادرة على التفكير والإبداع وتتحمل الأدوار والمسئوليات.
انتهت رحلة دراستهما بشكل سريع، ومضت سنوات مليئة بالنقاش والتفكير والتدبر، وعاد د. شلح قبل الشهيد الشقاقي إلى غزة لتنطلق المهمة ، واجتمعا لاحقاً في غزة عام 1982 ليعرفهما الوطن في مخيمات غزة وأحيائها، ومدن الضفة الغربية وقراها، وباحات المسجد الأقصى ونشاط طويل حافل بالعمل والنضال. كانت هذه السنوات كفيلة بأن تمد مشوار الرحلة في بدايته بالطاقة اللازمة لنهوض تنظيمهما وتطوره واستطاعا برفقة زملائهما ومجاهديهما أن يكونوا على أرض الوطن واقعاً متجسداً لأفكارهما التي تبلورت قبل سنوات.
كان القدر حاضرا مرة أخرى لغربة جديدة، فصلتهما عن بعضهما هذه المرة ليذهب أبو عبد الله باتجاه إكمال دراسته العليا في منتصف الثمانيات ويقرر الاحتلال بعدها بسنوات أن يبعد أبا ابراهيم عن غزة ، لتنطلق محطة جديدة من العمل الجهادي وبواقع مختلف وبتواصل جديد.
هذه المحطة استطاع مشروعهما الجهادي أن يكبر أكثر وأكثر، وأن يعزز من تحالفاته ويطور من أدائه على كافة المستويات داخلياً وخارجياً، يحاضر أبو عبد الله في الولايات المتحدة ويدير مجلة ثقافية وينشر وعياً ويواجه الرواية الاحتلالية في أنحاء العالم. ويتابع أبو ابراهيم مهامه ويدير تنظيمه المقاوم من خارج الوطن ويجمع حوله المناصرين ويعزز الحضور داخل الوطن بالعمل الجهادي الذي نشط وتطور خلال الانتفاضة التي ألهبت الجماهير وأشعلت الأرض ناراً على الاحتلال في الأرض المباركة.
اجتمع الأخوان مجدداً في سوريا قبل اغتيال الشهيد الشقاقي، وكان القدر حاضراً في اجتماع الغربة لتكون محطة تمهيدية، يحمل الراية بعدها الراحل أبو عبد الله خلفاً لصديقه يعمل خلالها على البناء والتطوير والنهوض بحركة الجهاد، حتى جمعهما تراب الغربة أخيراً، ولتصل الراية في مشوارهما الجهادي إلى رفيق دربهما الأستاذ زياد النخالة ... يكملون الدرب ويعلمون أنهم أصحاب رسالة جهاد فاتورتها دمهم ونتاجها التحرير والعودة. يؤمنون ببرنامجهم، يثبتون على مواقفهم ويتمسكون بخيارهم، يصدقون شعبهم فيحظون باعتباره وتقديره ...