Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

رمضان شلح.. رحيل المقاوم المثقف

9999052818.jpg
وكالات

في مساء السادس من يونيو الجاري٫ وبعد صراع طويل مع المرض، أسلم المناضل العتيد رمضان عبد الله شلح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الروح، ليكتب نهاية مسيرة جهادية طويلة دامت أكثر من ثلاثين عامًا.

ولد شلح في قطاع غزة عام 1958، تلك البقعة من أرض فلسطين التي كانت وما زالت شوكة في خاصرة الاحتلال، ‎وشأنه شأن كثيرين من أبناء جيله تفتح وعي شلح مع التجربة الناصرية، حيث عايش فترة المد القومي في الخمسينيات والستينيات، وقد خلفت هذه الفترة أواصر لشلح مع البعدين القومي والتقدمي مع حركة التحرر العربية لم تنفصم عراها حتى مع اختياره لاحقا لطابع إسلامي لجهاده ضد الاحتلال.

‎وتجرع رمضان شلح بشكل شخصي مرارة النكسة في 1967، حين شاهد قوات الاحتلال تضم قطاع غزة والضفة الغربية بقوة السلاح، ‎ولدت تجربة الاحتلال بغضًا عميقًا في نفس شلح ضد الاحتلال، وإيمانًا عميقًا بان الانتماء العروبي/الإسلامي لفلسطين والأمة بشكل عام هو السبيل لمواجهة الكيان الصهيوني.

وشاءت الأقدار أن يلتقي شلح على هذه الأرضية مع رفيق كفاحه ونضاله الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي في جامعة الزقازيق في مصر، خلال دراسة كل منهما هناك في السبعينات، ‎ورغم اختلاف التخصص -حيث كان الشقاقي يدرس الطب في حين كان شلح يدرس لنيل درجة البكالوريوس في علم الاقتصاد- إلا أن القضية جمعت بينهما ليكونا معًا النواة الأولى لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.

كانت الجهاد أولى الفصائل المقاومة ذات التوجه الإسلامي/العروبي، ظهورًا على الساحة الفلسطينية مطلع الثمانينات، وتميزت عن غيرها من فصائل تيار الإسلام السياسي بأمرين هامين: الأول هو تأثرها الواضح بالثورة الإيرانية عام 1979، باعتبارها- عند نشأتها – نموذجًا معاديا للإمبريالية أو الاستكبار العالمي، في الوقت الذي كانت فيه معظم التيارات الإسلامية السنية المحافظة تتعامل مع تلك الثورة بريبة وحذر شديدين نظرًا للاختلاف المذهبي.

والأمر الثاني هو أن الشقاقي جعل من القضية الفلسطينية محور العمل الجهادي والقضية المركزية التي ينبغي أن تشغل الأمة بشكل عام، والتيار الإسلامي التقدمي بشكل خاص، وهو موقف مميز خاصة إذا ما علمنا أن أغلب التيارات الإسلامية في ذلك الوقت كانت تعتبر فلسطين قضية مؤجلة، بل أن بعضها كان يقدم القضية الأفغانية عليها.

رغم ما شاب حضور هذه التيارات في المسرح الأفغاني من تورط في الصراع الغربي مع الاتحاد السوفييتي السابق، ورغم -وهذا هو الأخطر- تحول هذه التجربة إلى مصدر لجماعات الإرهاب التي ارتدت إلى دول المنطقة العربية نفسها. فقد أثبت هذا الموقف المبكر صحة ودقة بوصلة حركة الجهاد نحو فلسطين، وعدم انحرافها للتدخل في الصراعات العربية أو الشؤون الداخلية لأي بلد عربي فحازت احتراما معلنًا أو كامنًا.

ويمكن القول إن الجهاد بعملياتها المسلحة مهدت بشكل أو بأخر للانتفاضة الأولى عام 1987، خاصة وأن هذه العمليات كانت أكثر إيلامًا للعدو، كونها تمت على أرض فلسطين، بعكس فصائل أخرى كان عليها اختراق الحدود لتنفيذ عملياتها نظرًا لوجود قواعدها خارج فلسطين المحتلة.

وزاد من خطورة حركة الجهاد تلك اللحمة التي استطاع الشقاقي ايجادها مع حركة المقاومة في جنوب لبنان، والتي استفاد منها الجناح العسكري للجهاد الذي بات اليوم يعرف باسم سرايا القدس، و‎كان من الطبيعي أن يصبح الشقاقي في دائرة الاستهداف الصهيوني، وفي عام 1995، تمكن الموساد من اغتيال القيادي الفلسطيني أثناء تواجده في مالطا.

كان اغتيال الشقاقي نقطة تحول في حياة شلح، فضحى هذا الأخير بمركزه الأكاديمي الذي حققه منذ حصوله على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة درم عام 1990، وعمله أستاذا لدراسات الشرق الأوسط في جامعة جنوب فلوريدا في الولايات المتحدة بين عامي 1993 و1995، وأبى إلا أن يلبي نداء الواجب والوطن، خاصة بعد أن اختاره أعضاء الحركة خليفة للشقاقي.

سار شلح على درب رفيقه في الاصرار والتمسك بالمقاومة المسلحة كسبيل وحيد لتحرير الأرض المحتلة، ورفض كافة الاتفاقات الموقعة مع الكيان الصهيوني وفي مقدمتها اتفاقية أوسلو.

 وفي هذا السياق رفض شلح الدخول في أي ترتيبات سياسية فلسطينية داخلية بنيت على أوسلو، بما في ذلك رفض الدخول في لعبة الانتخابات التشريعية التي دخلتها فصائل مختلفة، بما فيها حماس بكل قوة وفازت بها، وأصبح بعدها الصراع فلسطينيا-فلسطينيا بين فتح وحماس، (ولعل هذا هو ما خططت له إسرائيل من البداية). وعارض شلح فكرة أن يكون جزءًا من عملية انفصال غزة 2007، أو أن يكون هو أو حركة الجهاد طرفًا في الاقتتال الداخلي، وكتم بصبر تجاوزات كثيرة جرت ضد مقاتليه من الطرفين المتصارعين على السلطة محافظا على حرمة الدم الفلسطيني.

وهذه البوصلة هي التي مكنت شلح وزملائه في قيادة الجهاد، باستمرار من إدراك قيمة مصر ودورها، مهما تغيرت الأوضاع السياسية، وكان ضيفًا مرحبًا به باستمرار لإخلاصه لكل جهود محاولات تحقيق الوحدة الفلسطينية، وانهاء الانقسام الفلسطيني التي كانت تجري معظمها في القاهرة.

كما تميزت فترة قيادة شلح -القارئ النهم والمثقف العميق والمتمكن من اللغة الإنجليزية والعبرية- لحركة  الجهاد بقدرته بما له من جذور قومية واجتماعية تقدمية- تميزت بالانفتاح على كافة الفصائل الفلسطينية، بما فيها الفصائل اليسارية على قاعدة الإيمان بالعمل المسلح. ‎أسفر هذا الانفتاح عن انطلاقة جديدة لسرايا القدس في التسعينيات وبشكل أكثر قوة مع بداية الألفية الثانية واندلاع انتفاضة الأقصى وقدرة السرايا على تنفيذ عمليات نوعية في قلب فلسطين المحتلة عام 1948، بالتعاون والتنسيق مع الفصائل الأخرى.

‎ونجح شلح في أن يكون حلقة وصل بين المقاومة الفلسطينية ونظيرتها في لبنان، وتبدت أهمية هذا الدور مع اندلاع الأزمة السورية عام  2011، ‎فرغم اختيار فصائل فلسطينية وخاصة من التيار الإسلامي بما فيها -حركة حماس – الانحياز للمعارضة السورية، تمسكت الجهاد التي كانت تتخذ من دمشق مقراً لها بانحيازها لوحدة الدولة السورية، ومع تجدد العدوان على قطاع غزة عام 2014، استطاع شلح إعادة الصلة بين تلك الفصائل وبين الدولة السورية بعد انقطاعها لعدة سنوات.

‎ورغم ما حدث من اختلاط الأوراق لدى كثير من الفصائل والأحزاب العربية بعد الانتفاضات الشعبية التي عرفت باسم «الربيع العربي»، استطاع شلح بحنكته وثقافته الموسوعية أيضًا أن يبقى بوصلة الحركة والمقاومة بشكل عام في اتجاهها الوحيد الصحيح، تجاه فلسطين.

ومع رحيل الدكتور رمضان عبد الله شلح، ترجل فارس آخر من فرسان المقاومة، إلا أن المؤكد أنه كرفيق دربه فتحي الشقاقي قد خلف عشرات الفرسان المؤمنين بما آمنا به.