بقلم د. وليد القططي
" طلب الرئيس محمود عباس تشكيل لجنة مشتركة من أعضاء اللجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير والمركزية لحركة فتح لوضع آليات الرد على القرار الإسرائيلي المحتمل بضم أجزاء من الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية فيما أسماه البعض لجنة إلغاء الاتفاقيات مع إسرائيل". هذا الخبر جاء في معظم وسائل الإعلام الفلسطينية، تشكيل اللجنة رافقه كثافة في ردات الفعل الفلسطينية الكلامية من تصريحات إعلامية، ومؤتمرات صحفية، وتحليلات سياسية، ومقالات رأي... وقد يلحقه مسيرات ومظاهرات وإضرابات... تصب جميعها في حالة الصراخ والضجيج التي تسود الحياة السياسية والحزبية الفلسطينية كبديل عن التخطيط والعمل عندما يستعد العدو للقيام بأي خطوة عملية ضدنا، وهذا ما حدث عند إعلان صفقة القرن، وهذا ما يحدث الآن مع اقتراب ساعة الصفر لإعلان العدو ضم أجزاء من الضفة الغربية، وكأنَّ الضم شيءٌ آخر غير الاحتلال اقتضى أن تُثار حوله زوبعة، ليست أكثر من زوبعة في عقل مأزوم، ومصدر أزمته في فكره السياسي المهزوم، ولتوضيح ذلك لا مناص من العودة إلى أصل الحكاية وأول القصة.
اعتبر العرب والفلسطينيون أن (إسرائيل) دولة غير شرعية مُقامة على أرض محتلة هي فلسطين، وأنشأت الحركة الوطنية الفلسطينية منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 من أجل تحرير فلسطين المحتلة عام 1948، حتى عام النكسة 1967 عندما احتلت ما تبقى من فلسطين – الضفة والقطاع – وسيناء المصرية والجولان السورية، وطوال هذه المرحلة الزمنية ما بين النكبتين وبعدهما لم يعترف العرب والفلسطينيون بشرعيتها ولم يُغيّر الأمر الواقع المفروض بالقوة العسكرية والقرارات الدولية حقيقة أنها أُقيمت على أرض مُحتلة هي أرض الشعب الفلسطيني بغض النظر عن القانون المُطبق على أرضها ومن بقي من أهلها سواء كان عسكرياً أو مدنياً طالما أن مصدره دولة غير شرعية. وحدث أول اختراق للموقف العربي الموّحد ضد هذا الكيان المغتصب من مصر عندما زاره رئيسها آنذاك أنور السادات عام 1977 وعقد معها اتفاقية كامب ديفيد واستعاد سيناء على ثلاث مراحل بين عامي 1979 و 1982 فخرجت مصر من الصراع.
ولكنَّ الدولة العبرية تصرفت بطريقة مختلفة مع مرتفعات الجولان السورية، فقد أصدر الكنيست الإسرائيلي عام 1981 ما يُعرف بقانون مرتفعات الجولان ونص على فرض القانون والولاية القضائية وإدارة الدولة على الأرض والسكان في الجولان، وهذا يعني عملياً ضم الجولان إليها ، والضم تم لأرض مُحتلة إلى أرض مُحتلة أطلق المحتلون عليها اسم (إسرائيل) فلا فرق بين المنطقتين إلاّ بالاسم، وقبلها بعام أصدر الكنيست الإسرائيلي (قانون القدس) الذي اعتبر أن أورشليم الموّحدة- الشرقية والغربية – هي عاصمتها ، ومضمونه ضم القدس الشرقية إلى دولة الكيان مع إعطاء سكانها وضعاً خاصاً يفصلهم عن سكان الضفة ولا يربطهم بسكان الكيان، فمنحهم صفة مقيمين دائمين، وهذا لم يُغيّر من جوهر احتلال القدس شيئاً بغربها المُحتل عام النكبة، وشرقها المُحتل عام النكسة، حتى بدأت عوامل التعرية الوطنية تنحت في الفكر السياسي الفلسطيني والمشروع الوطني الفلسطيني ابتداءً من البرنامج المرحلي عام 1974 وانتهاءً بمحطته الأخيرة في اتفاقية أوسلو عام 1993.
في اتفاقية أوسلو اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الكيان المُقام على أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين الانتدابية، بمعنى أنها لم تُعد أرضاً مُحتلة، وبالمقابل لم يعترف العدو بأن ما تبقى من فلسطين – الضفة والقطاع – هي أرض مُحتلة، بل اعتبرتها أرضاً مُتنازعاً عليها سيتم تقرير مصيرها بالمفاوضات بين الطرفين، وتم تقسيمها في اتفاقية أوسلو إلى ثلاث فئات بمعايير السيطرة الأمنية والإدارة المدنية، وجميعها عملياً تحت السيادة والسيطرة الإسرائيلية الاحتلالية، خاصة المنطقة المُصنّفة (ج) التي تشمل أكثر من نصف الضفة ومُقام عليها كل المستوطنات الإسرائيلية، وحتى بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005 لم يتغّير هذا الواقع إلاّ في التفاصيل الميدانية، وهذا يتطلب تثبيت حقيقة أن فلسطين كلها من البحر إلى النهر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش تحت الاحتلال بأشكال مختلفة في التفاصيل ما بين فلسطين المُحتلة عام النكبة، وفلسطين المُحتلة عام النكسة، وما بين الضفة والقطاع، وما بعد أوسلو، وهذه حقيقة لن يغيرها تقادم الزمن أو تزوير التاريخ، ولن يبدلها الأمر الواقع أو الاعتراف الدولي، ولن يمحوها التطبيع العربي أو التراجع الفلسطيني، كما لن يدفنها اختلاف أسماء الاحتلال كالضم وغيرها.
فالضم كما حدث في الجولان والقدس الشرقية، وما يتوقع حدوثه في الأغوار والكتل الاستيطانية بالضفة هو اسم آخر للاحتلال، يعني في القانون الدولي دمج أرض مُحتلة ضمن نطاق الدولة المُحتلة وتطبيق قانونها وإدارتها عليها، والضم وفق الرؤيتين الأمريكية والإسرائيلية لا يختلف عن هذا المفهوم، فقد جاء في نص صفقة القرن الأمريكية. "ستصبح الجيوب الإسرائيلية الموجودة داخل الأراضي الفلسطينية المتجاورة جزءاً من دولة إسرائيل ... وسيكون غور الأردن... تحت السيادة الإسرائيلية" وبذلك الضم الذي يعني إلحاق مناطق مُحتلة قانونياً وإدارياً بالدولة المُحتلة من طرف واحد يكون الذي تغيّر هو اسم الاحتلال وشكله دون معناه ومضمونه، وفضلاً عن ذلك فلا يوجد فرق كبير بين الأرض المحتلة قديماً (إسرائيل) والأرض المحتلة المضمومة إليها (الضفة)، والفرق موجود فقط في عقل من أقام بُنيان فكره السياسي على فرضية حل الدولتين الذي أُقيم على أساسه مشروع التسوية واتفاقية أوسلو، لأن الضم في دلالته المباشرة تعني نهاية حل الدولتين، وسقوط مشروع التسوية، وتحويل السلطة إلى مجرد إدارة مدنية تحت الاحتلال بدون أُفق سياسي.
وبناءً على ذلك نستخلص أن الضجة المُثارة حول نية دولة الاحتلال ضم الضفة أو أجزاء منها، هي زوبعة في عقل مأزوم في فكره السياسي ومشروعه الوطني، لأنَّ الضم لا يغير من طبيعة الاحتلال إلاّ في شكله القانوني وتفاصيله الإدارية، لا في مضمونه العسكري القمعي، وجوهره الاستيطاني الإحلالي، ومحتواه العنصري الاستعلائي، فهو واحد سواء أكانت الأرض مُحتلة أو مضمومة، فقد تبخّرت أحلامه الوهمية، التي بناها على أنقاض المشروع الوطني الحقيقي، فأقنع نفسه وحاول إقناع شعبه بإمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من أرض فلسطين بموافقة دولة الاحتلال وتحت عينها، فأقام سلطة تحت الاحتلال وقبل التحرير، فرسخّت الاحتلال وأعاقت التحرير.
خلاصة الكلام هو دعوة للتركيز على أصل البلاء ومصدر الشقاء وهو الاحتلال بدولته وجيشه ومستوطنيه في كل مكان من فلسطين، لا فرق بين يافا ورام الله، أو حيفا وغزة، أو القدس الشرقية والغربية، بدون تضييع الوقت والجهد في تفاصيل الاحتلال من حكم عسكري، أو ضم وإلحاق، أو استيطان وتهويد، وهذا بدوره يتطلب إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس تتجاوز مأزق أوسلو، ومن مقتضياتها تعريف نفسها كحركة تحرر وطني، وتحديد ملامح مشروعها الوطني وأهدافه في التحرير والعودة والاستقلال وتسمية مرحلتها كمرحلة تحرر وطني، وتحديد وسائلها بالمقاومة بكافة أشكالها، كما يجب إعادة تعريف أرضها فلسطين من البحر إلى النهر، وتُعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتكون بيتاً للكل الفلسطيني وقائدة للمشروع الوطني، وتُعيد بناء السلطة لتكون رافداً لصمود الشعب فوق أرضه.
وبدون ذلك فسيظل ضم الضفة زوبعة في عقل مأزوم، وسنعيش جميعاً زوابع متلاحقة من ردود الأفعال الخاوية، التي توسِع الاحتلال شتماً، بينما يوجِعنا الاحتلال ضرباً.