بقلم/ أ. محمد حسن حميد
هكذا يرحل الشهداء، يرحلون بإيمانٍ راسخٍ واضحٍ، يرحلون وقد ربحوا البيع بعد أن هجروا الدنيا وعروضها السخية، والتمسوا سبيل ذات الشوكة المفضي إلى النعيم الأزلي المقيم، يرحلون بسيرة ناصعة كنصاعة وجوههم الزكية، وهم قوافل ممتدة على مر الزمان، بدءاً من الصحابة الشهداء –رضوان الله عليه- انتهاءً بشهداء الأمة وفلسطين، ومنهم الشهيد القائد/ محمود الزطمة "أبو الحسن" النموذج الجهادي والاستشهادي الذي صدقت هجرته وجهاده في سبيل الله.
قيض لي أن ألتقي الشهيد القائد/ محمود الزطمة "أبا الحسن" وأتعرف عليه عن قرب في سجون السلطة حيث التقيته في عام 1997 ومكثت معه أياماً طويلةً عشت وإياه خلالها في غرفةٍ واحدة بسجن غزة المركزي قسم "هـ" التابع للمخابرات الفلسطينية، ما يلفت انتباهك في شخصه -منذ الوهلة الأولى- إيمانه الصادق والعميق بالإسلام والجهاد وفلسطين، وقناعته الراسخة بفكرة الجهاد والمقاومة لتحرير المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مسرى النبي –صلى الله عليه وسلم- ومعراجه إلى السماء، ولهذا الأمر وقعه في إطار حركة مقاومة فلسطينيةٍ صاعدةٍ تحتاج إلى فكرة الوعي الفكري بطبيعة الصراع في فلسطين بين تمام الحق وتمام الباطل، وأن لا التقاء بين الفلسطيني المتفوق أصالةً وأخلاقيةً و هذا المحتل العنصري المغتصب و المتجرد من الإنسانية والمحمل بكل أنواع الكراهية للغير.
كانت خيارات الشهيد القائد أبو الحسن الفكرية محسومةً ضد هذا الكيان الغاصب ولا مكان لديه لأية خياراتٍ أخرى كالتي ابتدعها الساسة الفلسطينيون في مرحلة اتفاقات أوسلو وما تلاها من اتفاقيات أمنية واقتصادية وسياسية أسقطت جل الثوابت الفلسطينية التي جاهد الفلسطينيون من أجلها لأكثر من قرنٍ من الزمان.
ولدى الحديث عن تلك المرحلة السوداء من تاريخ الشعب الفلسطيني مطلع تسعينيات القرن الماضي نستذكر كيف هان الكثيرون أمام الرتب العسكرية والمالية التي حملتها سلطة أوسلو الناشئة وكيف تزاحم عديدُ الثوار الفلسطينيين على هذه المناصب والمزّيات، وانقلبت معايير الترجيح فأصبح من كان في الأمس زميل الأسر سجاناً اليوم لرفيقه في سجون الاحتلال، وأصبح الفلسطيني يعتقل الفلسطيني بذريعة مقاومة الاحتلال وقُدّم المئات من المجاهدين إلى المحاكم الفلسطينية وكانت التهمة "الجهاد والمقاومة"، في هذا الوقت بالذات كان الشهيد القائد أبو الحسن من المعتقلين بهذه التهمة المشرفة حيث خضع لتحقيقٍ قاسٍ لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وسجل صموداً أسطورياً في التحقيق أمام محققي العار وضيع على من خلفهم فرصة الحصول على أية معلوماتٍ حول المقاومة. ورغم كل هذه الإجراءات وهذه الانقلابات العسكرية على صعيد آلاف المناضلين الفلسطينيين إلا أن الشهيد القائد –وهذه شهادة حق- لم يهن ولم يجامل رغم ما عرض عليه من مراتب مالية أو عسكرية واستمر يبشر بفكرته وقناعاته بأهمية الجهاد والمقاومة وأن لا صيغة تجمعنا مع هذا العدو المحتل لأراضينا إلا الجهاد والمقاومة والقتال.
ومن جميل كلامه الذي لا زلت أذكره حتى وقتنا الحاضر قوله: "يعرضون عليَّ أن أساوم على فلسطين برتب مالية وعسكرية ومواقع قيادية، وقد شبعت من دنياهم وعشت أياماً هي الأجمل أثناء عملي في الجمهورية الجزائرية من بيتٍ جميل وأماكن سياحية، وليس لي الآن أي رغبة فيها وإنما أريد أن أكمل مشواري في الجهاد والمقاومة، ولن أساوم على ديني بعرضٍ من دنياهم.
كان الشهيد أبو الحسن متخصصاً أكاديمياً بشبكات الكهرباء والصواعق، فهو خريج كلية الهندسة (قسم الكهرباء) من الجامعات المصرية وتلقى دورات عسكرية في إعداد العبوات الناسفة وتفخيخ السيارات، حيث جمع ما بين العلم الأكاديمي والدورات المتخصصة في العلوم العسكرية الأمر الذي مكّنه من تجهيز عددٍ كبيرٍ من الاستشهاديين.
الشهيد القائد كان صادقاً مع نفسه ودينه وشعبه، فقد استمر اعتقاله لأكثر من خمس سنواتٍ في سجون السلطة وخرج بعيد اشتعال انتفاضة الأقصى ووصول المفاوض الفلسطيني إلى يقين لهثه خلف السراب أو ما أسماه الشهيد القائد فتحي الشقاقي "السلام المدنس"، وأن هذا العدو الغاصب ليس لديه أي برنامج سوى فتاتٍ من الحكم الذاتيٍ الموسع للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وعقب ذلك التحق الشهيد القائد مجدداً في صفوف سرايا القدس الجهاز العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وبقي على رأس دوره الجهادي والطليعي يعلّم الشباب الجدد في سرايا القدس خبراته التي اكتسبها عبر مشواره الطويل في العمل المقاوم حتى تمكنت إحدى طائرات الاحتلال الغادرة من تحديد السيارة التي كان يستقلها وإصابته إصابةً مباشرة بعدة صواريخ، ما أدى إلى استشهاد الشهيد القائد أبي الحسن.
إن في سيرة الشهيد تذكرةٌ للجميع أن هذه الدنيا بمتاعها لا ترقى إلى أن يفني المرء نفسه في طلبها، وأن الفوز الحقيقي إنما يكون في الحياة الآخرة التي ينبغي للمرء أن يعقد عليها رهانه وعمله. إن ما آل إليه الأمر بعد هذه السنوات من المسلسل التسووي مع هذا الاحتلال قد أثبت أن دماء الشهداء وبصفةٍ خاصة شهداء انتفاضة الأقصى "الانتفاضة الثانية" وفي مقدمتهم الشهيد القائد محمود الزطمة قد امتلكوا رؤيةً ثاقبة تتمثل في عبثية المسار التطبيعي المنحدر، وقد قدموا دماءهم في سبيل فلسطين، وهذه الدماء توجب علينا أن نكون أوفياء لها، عبر اقتفاء أثرهم والتشبث بما باعوا أنفسهم نصرةً له. رحم الله شهيدنا وأسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون.