تطرح صفقة القرن على حركة التحرر العربية بشكل عام، وعلى حركة التحرر الفلسطينية بشكل خاص، تحديًا تاريخيًا ومصيريًا، يتجاوز بتداعياته ونتائجه إلى ما هو أبعد من حدود الإقليم العربي؛ فالصفقة بوصفها مشروع استراتيجي أمريكي لإعادة ترتيب جغرافية المنطقة، تأتي في لحظة تحولات جيوسياسية دولية، تتبدى في انكفاء نظام الآحادية القطبية لصالح نظام دولي متعدد القوى والأقطاب، وتهدف إلى ضمان إمساك الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة استراتيجية حاسمة، تسمح لها بإدارة الصراع في مرحلة تراجعها بشكل ناجع، وذلك من خلال تلزيم المنطقة بعد تفكيكها لصالح حليفها الاستراتيجي "إسرائيل"، الذي يخشى بدوره من انعكاس ذلك التراجع على سلم أولويات الإدارة الأمريكية في المنطقة ذاتها؛ الأمر الذي يجعله أكثر نهمًا وتلهفًا على سرعة إنجاز المشروع الإمريكي بمواصفاته المحددة، وإعلان تبنيه له ليصبح في فحواه وأهدافه مشروعًا أمريكيًا إسرائيلياً. وإذا كًات مواجهة هذا المشروع قد باتت أمرًا لا يحتمل التردد أو التأجيل نتيجة للمخاطر التي يكتنزها، والتي تلقي بظلالها إلى مناطق أبعد من الحدود الجغرافية للمنطقة، فإن عملية المواجهة الناجعة تستدعي بدورها آليات ومرتكزات واضحة وقادرة على الارتقاء إلى مستوى المخاطر التي يتضمنها. هذه المقالة محاولة لرسم تصور أولي لمواجهة صفقة القرن، وهي تنقسم منهجيًا إلى ثلاثة عناوين حسبما يرد:
أولًا: الطبقات الجيبولتيكية لصفقة القرن
تكشف القراءة المدققة للنص الرسمي لصفقة القرن، والذي يتقاطع في كثير من مفاصله مع مجمل التسريبات التي تتالت على مدى السنوات الماضية، عن طبقتين مباشرة وغير مباشرة.
1 ــ الطبقة المباشرة وتتركب من ثلاثة شرائح متتالية ومتداخلة، تتمثل فيما يلي:
أ ــ منطقة القلب: وتتمثل في كل ما ورد في الصفقة من قضايا سياسية وأمنية واقتصادية وغيرها، تتعلق بأرض فلسطين التاريخية، سواء بالتكوين السياسي الاحتلالي، أو التكوين السياسي الفلسطيني في الضفة والقطاع، والامتداد الديمغرافي الفلسطيني في دول الشتات.
ب ــ منطقة الطوق: وهي الدول العربية المحيطة بأرض فلسطين، وقد وردت في الصفقة بمستويات مختلفة حيث تمت الإشارة نصًا إلى بعضها، ولم يرد ذكر بعضها الآخر، وتتلخص عملية استهدافها في انخراطها في التصور الأمريكي ضمن مشروع إعادة الترتيب.
ت ــ منطقة المحيط الخارجي: وتتمثل في المنطقة المحيطة بالإقليم العربي، وفي هذا الصدد تشير الصفقة إلى إيران التي ورد ذكرها خمسة عشر مرة، وفي ثلاثة سياقات؛ أولها، أنها تشكل تهديدًا وجوديًا لأمن إسرائيل، ولاستقرار الدول العربية، فهي حسب وثيقة صفقة القرن تسعى إلى تطويق إسرائيل وتستخدم لبنان وسوريا وغزة، وتعمل على محاصرة المملكة العربية السعودية والعراق و البحرين واليمن. وثانيها، أن هناك مصلحة مشتركة بين إسرائيل والدول العربية لمواجهتها، بدعم ورعاية أمريكية. بينما يتمثل ثالثها، في الهدف المباشر وهو العمل على تغيير سلوك إيران، والقضاء على محور المقاومة وحماية إسرائيل وتأمين وتثبيت وجودها، وغير المباشر وهو إنجاح مشروع تفتيت المنطقة، بما يؤمن هيمنة إسرائيل على أشلاء الدول العربية وبناء الشرق الأوسط الجديد.
على ضوء ذلك نجد أن المحيط الخارجي، كما تطرحه الصفقة يتفاعل بشكل كبير مع منطقة الطوق، وبمنطقة القلب أيضًا، وقد ركزت الصفقة على ذلك من خلال الإشارات المتكررة لتشابك العلاقة بين إيران وعديد قوى ودول المنطقة.
2 ــ الطبقات غير المباشرة، وهي مختلف بلدان العالم ومنظماته التي استهدفتها الصفقة، وتتمثل عملية الاستهداف في النيل من منظوماتها القانونية والحقوقية وقراراتها السابقة المتعلقة بالصراع في المنطقة.، وتتمثل في المنظمات الدولية والإقليمية (الأمم المتحدة ــ الاتحاد الاوربي ــ الاتحاد الافريقي ــ مجموعة برسك.. وغيرها)، وذلك على الرغم من أن الصفقة لم تشر لها مباشرة، باستثناء الأمم المتحدة التي تمت الإشارة إليها من زاوية عجز القرارات التي اتخذتها وعددها 700 قرار، صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، غضافة إلى 100 قرار صادر عن مجلس الأمن، عجزت جميعها حسب نص الصفقة عن أن تجد حلًا للنزاع.
ثانيًا: الحلقة المركزية في المواجهة
إن مسار مواجهة صفقة القرن تستدعي بالضرورة مواكبة مسار طبقات الاستهداف المباشرة وغير المباشرة، بما يعنيه ذلك من أن تشمل عملية المواجهة منطقة القلب والطوق والمحيط الخارجي والساحة الدولية، مع الأخذ بعين الاعتبار تراتبية طبقات المواجهة، من حيث الأهمية وقوة التأثير في الطبقات الأخرى. وفي هذا الصدد تبرز منطقة القلب كحلقة مركزية طرفية في سلسلة الاستهداف، إذا تم الامساك بها وسحبها فستجر خلفها بقية السلسلة، بما يعنيه ذلك من أن حسم الملف الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية، أي حسم مصير أرض فلسطين التاريخية لصالح القوة الاحتلالية، سيحسم الملفات الأخرى لصالح المشروع الامريكي، الذي يريد أن يجر السلسة من حلقتها الطرفية وهي أقوى حلقاتها، وليس من أضعفها وهي حلقة الطوق العربية الوسيطة، التي يتسارع فيها الاختراق عن طريق التطبيع، والذي يعي جيدًا بأن الامساك الكلي بالحلقة العربية المسماة بأنظمة الاعتدال العربي، لن يسمح له بالإمساك بكل السلسلة، بل قد يقود إلى عملية قطع تفتح المجال أمام تكوين سلسلة جديدة أكثر قوة واستعصاء على المشروع الأمريكي؛ لذلك يتم التركيز على استخدام الحلقة العربية المعتدلة كأداة ثقب وتليين للحلقة المركزية الرئيسة، وهي الحلقة الفلسطينية التي يوفر الامساك بها السيطرة على كامل الحلقات واجبارها على الانصياع للمشروع الأمريكي. وإذا وضعنا في الاعتبار أن الحلقة الفلسطينية في جانبها الرافض والمقاوم للصفقة، يتم النظر إليها من زاوية علاقتها بمجموعة من القوى والدول العربية من ناحية، وإيران من ناحية ثانية، يمكننا القول أن مقاومة الحلقة الفلسطينية هي جزء من مقاومة محور المقاومة الممتد من طهران إلى لبنان، اضافة إلى قوى حركة التحرر العربية، وهي الكل الفاعل الذي يقف في الموقع المضاد للمشروع الأمريكي، ولا بد من التأكيد على أن أهمية الحلقة الفلسطينية كحلقة مركزية في المواجهة، تنبع من الوعي بأن سقوطها يعني سقوط تحرير الأرض المغتصبة، كأحد عناوين مشروع حركة التحرر العربية، والذي سيجر خلف العنوانين الآخرين، وهما الوحدة والخروج من التبعية، وبمعنى أدق تسجيل الهزيمة التاريخية لحركة التحرر العربية. ومن ناحية ثانية، سحب بساط مشروعية محور المقاومة المرتكز على موقفها من المشروع الصهيوني. ومن ناحية ثالثة، انكفاء الحلقات الدولية بمنظومتها القانونية المتعارضة مع صفقة القرن.
ثالثًا: مرتكزات البرنامج المقاوم لصفقة القرن
إن أي برنامج نضالي لمواجهة الصفقة يجب أن يستجيب إلى تقسيمة الطبقات المباشرة وغير المباشرة التي تستهدفها الصفقة، الأمر الذي يفرض مجموعة من المهام على مستوى كل حلقة من حلقات المواجهة، وفي هذا الصدد تبرز مجموعة من الركائز الأساسية تتمثل فيما يلي:
أولاً. تحديد الهدف: ويتبدى في مستوى مباشر يتحدد في محاصرة الصفقة ومنع انتشارها وتسللها على كافة المستويات الدولية والإقليمية الرسمية والشعبية، ومستوى استراتيجي يتحدد في إسقاطها، وانتزاع الفرصة التاريخية لصالح حركة التحرر العربية والمترتبة على هذا الإسقاط.
ثانيًا. حسم التوجه: ويتمثل في ضرورة الانتقال من مرحلة التعبير عن رفض الصفقة، إلى مرحلة التدبير والعمل على تحقيق الأهداف المباشرة والاستراتيجية، وهي مسألة ترتبط بشكل كبير بكيفية اقتصاد القوى وإدارتها في مواجهة طويلة، وعدم الوقوع في خطأ الاستنزاف السريع للطاقات، ثم الركون والاستسلام لمجريات الواقع، بينما يستمر الطرف الآخر في الفعل والعمل اليومي بمستويات متعددة.
ثالثًا. بناء الخطة: وذلك ارتباطًا بما هو عام ومشترك بين كل فصائل حركة التحرر العربية، وبما هو خاص ارتباطًا بواقع كل فصيل، ومن حيث المبدأ يمكن تحديد مجموعة من المفاصل السياسية التي تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني ومن ضمنها ضرورة الحسم مع أطروحات التسوية واتفاق اوسلو وتداعياته المختلفة على الساحة الفلسطينية، ومقاومة التطبيع والتبعية على الساحة العربية، والفكرية المرتبطة بمواجهة عملية تزييف الوعي وتشويه تاريخ الصراع وتمييعه، والقانونية التي تتصدي للالتفاف على قرارات الشرعية الدولية، وتصد محاولة تشويه المقاومة ودمغها بالإرهاب، وتأكيد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال كما نصت القوانين الدولية، وتجريم العدو الصهيوني، والإعلامية التي تتصدى لمحاولات التضليل الإعلامي وصد محاولات الإساءة للشعب الفلسطيني، وتسليح المواطن العربي بالمعلومة الصحيحة، والعسكرية وهي مسألة ملقاة على عاتق الفصائل الفلسطينية وترتقي إلى مستوى التهديد الوجودي الذي تتعرض له القضية الفلسطينية. وفي هذا الجانب يستدعي الأمر الترتيب لعمل عصابي متواصل في عمق الكيان وفي شبكة المستوطنات، أكثر من عمليات القصف الصاروخي الذي يحتاج إليه في مستويات أخرى من المواجهة.
رابعًا. أدوات الفعل: وتتمثل في منظمات المجتمع المدني من جمعيات وأحزاب سياسية على المستوى العربي والإقليمي والدولي، وكذلك الفصائل الفلسطينية، والعمل على بناء علاقات تشاركية وتكوين شبكات نضالية تخترق الحدود الجغرافية، وتشمل مختلف القطاعات الجماهيرية على مستوى النوع والمهنة والدور الاجتماعي.
خامسًاـ أشكال العمل: باستثناء العمل العسكري المنوط بالأجهزة العسكرية للفصائل الفلسطينية، فإن العمل الجماهيري يشكل أداة الفعل الرئيسة، التي تتجلى في مختلف الآليات والوسائل مثل التظاهر والاعتصام والمسيرات وإصدار البيانات وتوجيه الرسائل والقيام بحملات التوقيع وعقد الندوات والملتقيات والمؤتمرات، والقيام بحملات جمع التبرعات والدعم المادي، مع الوعي إلى ضرورة استمرارية العمل النضالي، بما يعنيه ذلك من عدم استنزاف الجهد والطاقة خلال فترة محدودة ثم التوقف.
خاتمة
إن صفقة القرن التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية، كمدخل لتفكيك "النظام الإقليمي العربي"، وبناء نظام إقليمي جديد، مهيمن عليه من قبل الكيان الصهيوني، يجعل من كسب معركة المواجهة مع الصفقة قضية مصير لا تحتمل التأجيل أو التردد.