رضى الموسوي
شكل الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني 2020 تاريخًا فاصلًا إزاء القضية الفلسطينية. ففي ذلك التاريخ أعلن الرئيس الامريكي دونالد ترامب عن صفقة القرن بحضور قادة الكيان الصهيوني وسفراء ثلاث دول خليجية هي البحرين والإمارات وعمان، وغياب فلسطيني كامل عن حفلة الزار، كان الرئيس الامريكي يحتفي مع رئيس الوزراء الصهيوني بصفقة يأمل كل منهما أن تبعد عنه المسائلة والعزل والمحاكمة. فالديمقراطيون نصبوا للرئيس ترامب فخ العزل في السنة الأخيرة من دورته الرئاسية الأولى، فأصدروا قرارهم في مجلس النواب الذي يشكلون فيه أغلبية نسبية، لِيُرحل القرار إلى مجلس الشيوخ الذي يشكل فيه الجمهوريون أغلبية نسبية تمكنت من إفشال قرار الديمقراطيين، وهو الأمر الذي جعل من الرئيس ترامب يتصرف بأريحية حذرة ويحاول استمالة الإعلام واللوبي الصهيوني الذي تمتد أذرعه للكثير من القطاعات في الولايات المتحدة، حيث تشكل "آيباك" اللوبي اليهودي الرئيسي في الولايات المتحدة ويحج لمؤتمراته أغلب مرشحي الرئاسة الأمريكية من الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي.
أما نتنياهو فقد دخل في بازار المنافسة مع رئيس حزب أبيض ازرق بيني غانيتس، واشتعلت المزاودات بين الاثنين على كسب ود عتاة المستوطنين الصهاينة الأكثر تطرفًا ونازية في الكيان. ربما تفعل الصفقة فعلها في إبعاد شبح المحاكمة لنتنياهو بتهم الفساد؛ تهم شبيهة أوصلت بعض المسؤولين الصهاينة للسجن، لكنها قد توصله لرئاسة الوزراء في دورة جديدة، لتشكل منعطفًا في تاريخ الصراع العربي الصهيوني في هذه المرحلة الفاصلة، حيث يتدهور الواقع العربي إلى قيعان سحيقة من الانحطاط على مختلف الصعد وفي مقدمتها ضعف الأمة العربية وتبعيتها ووهنها المخزي، والفرار للحلول القُطرِية الضيقة التي قادت للإرتماء في أحضان الدول الكبرى.
لكن صفقة القرن ليست وليدة عهد الرئيس ترامب،بل هي نتاج عقود من الخطط الصهيونية المدعومة أمريكيًا وبريطانيًا ومن لوبيات الصهاينة المنتشرة في شتى بقاع الأرض، وخصوصًا في العواصم التي لها تأثير على مسار الصراع العربي الصهيوني. لقد نسجت خيوط صفقة القرن في دهاليز مؤتمر مدريد الذي مارست قبله وأثناءه واشنطن ضغوطًا كبيرة على الدول العربية للمشاركة فيه. هذا المؤتمر الذي يعتبر انعقاده ومخرجاته من نتاجات اجتياح الجيش العراقي للكويت صيف 1990، ومن أهم مخرجات حرب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على العراق مطلع العام1991، واحتلال العراق في 2003 وإسقاط نظام صدام حسين.
من أهم بنود صفقة القرن:
1-سيطرة الكيان الصهيوني على 30 بالمئة من الضفة الغربية (غور الأردن) ضمن المناطق المصنفة (ج) في اتفاق أوسلو 1993.
2-ضم جميع المستوطنات الصهيوينة ال100 إلى الكيان الصهيوني.
3-منع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم وإسقاط أي مطالب بالتعويض. وتقرر الصفقة أن كل لاجئ فلسطيني لا يتمتع بحقوق المواطنة في أي بلد أمامه ثلاثة خيارات: أ) العودة للدولة الفلسطينية الجديدة حسب مقدراتها، ب)منحه حق الاستقرار في البلد الذي يقيم فيه (توطين يعني) بشرط موافقة ذلك البلد. ج) وضعه في قوائم انتظار اللجوء للدول الإسلامية التي سيتوزع الفسطينيون اللاجئون عليها، على أن يتم قبول 5000 فلسطيني سنويًا في كل دولة على مدار عشر سنوات.
4- اعتبار القدس موحدة وعاصمة ابدية للكيان الصهيوني.
5-اعتبار مناطق خارج القدس (أبو ديس) واعتبارها عاصمة لفلسطين.
6-سيطرة الكيان على الموانئ والمطارات والحدود والمياه لما تبقى من أراض فلسطينية.
7-ربط الأراضي المتناثرة بين الضفة الغربية وقطاع غزة بجسور وأنفاق.
8- إقامة دولة منزوعة السلاح، بعد أربع سنوات من انفاذ الخطة (اقتطاع غور الأردن وتثبيت السيطرة على المستوطنات).
9-وضع المسجد الأقصى تحت السيادة الصهيونية، ورفض مطالبة الفلسطينيين بالسيادة عليه وتحول حماية الأماكن المقدسة للكيان الصهيوني.
11-لتمرير الصفقة، خصص مبلغ 50 مليار دولار لتنفيذ نحو 180 مشروع وتطوير بنى تحتية، وتمول من دول عربية ومستثمرون أثرياء. وقسم الرئيس ترامب الخطة الاقتصادية إلى: 26 مليار دولار قروض، 13.5 مليار دولار منح، و11 مليار دولار استثمارات القطاع الخاص. وسيتم إنفاق المبالغ هذه في الضفة وغزة، بالإضافة إلى 9مليارات دولار في مصر و7مليارات دولار في الأردن، و6 مليارات دولار في لبنان.
حالة الانحدار في جدار صد الأمة العربية تشبه المتوالية الهندسية في الانزلاق الكبير نحو هاوية جرفت معها الكثير من القيم والثوابت ووصلت للعمود الفقري في القضية المركزية، فبينما كان رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس يعلن رفضه لصفقة القرن، كانت مديرة المخابرات المركزية الامريكية تعقد اجتماعًا في رام الله مع مدير المخابرات الفلسطينية الذي أعلن بدوره أن جهاز المخابرات الفلسطيني سيواصل التنسيق والتعاون الأمني مع المخابرات الامريكية، رغم أن مبلغ 180 مليون دولارًا الذي وافق الكونغرس على منحها لجهاز الأمن الفلسطيني لم تتسلمها الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد، ما يؤكد أن التنسيق الأمني يعتبر أولوية أمريكية صهيونية لمواجهة الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال، وهو ما يؤكد على أن الصفقة لم تكن إلا امتدادًا لاتفاق أوسلو الذي وقعّته القيادة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني في سبتمبر 1993، ومهمة هذا الاتفاق الرئيسية تتركز في الدفاع عن الكيان.
اتفاق أوسلو وتأصيل الانقسام الداخلي
أصّل اتفاق أوسلو (1993) للانقسام الفلسطيني الداخلي وعمق الجرح النازف أصلًا وأحدث انشقاقًا عموديًا بعد أن كانت الاختلافات تحوم حول مسألة قبول القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية مثل قرار التقسيم وقرار 242 وقرار 338. وقد أنجز اتفاق أوسلو من وراء ظهر حركة فتح ومن وراء ظهر منظمة التحرير الفلسطينية، وبالطبع من وراء ظهر الفصائل الفلسطينية المناضلة، حيث كانت الفئة القليلة المتنفذة في القيادة هي التي رمت بالاتفاق في وجه الوفد المفاوض الذي كان يترأسه الدكتور حيدر عبدالشافي.
شكل اتفاق أوسلو طعنة في خاصرة العمل الوطني الفلسطيني عندما استبدل المقاومة المسلحة بالتفاوض الأعزل غير المحمي وغير المدعوم سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، وكان يفتقد للجماهيرية الشعبية على المستويين المحلي الفلسطيني والعربي.
حوّل "أوسلو" الثوابت الوطنية إلى مادة للتفاوض، كما هو الحال مع موضوع اللاجئين، فضلًا عن نسخ نصوص الاتفاق للقرارات الدولية التي تنتقدها أغلب الفصائل، حيث أن "أوسلو" ربط مستقبل الضفة وغزة بالتفاوض الأعزل،
وحول القوى الفلسطينية الموافقة عليه إلى شرطة حراسة للكيان ضد القوى الرافضة للاتفاق (تذكروا 180 مليون دولار المقررة من الكونغرس للشرطة الفلسطينية).
- تطبيق "أوسلو" كشف بكل وضوح:
- عدم قدرة سلطة الحكم الذاتي على أن تقرر في أي شأن من الشؤون الداخلية إلا بموافقة سلطات الاحتلال،
وبالتالي فهي مطالبة في السياسة، كما في الثقافة والاقتصاد، وأن تلتزم بأمن الكيان.
- جلبت سلطة الحكم الذاتي معها أمراض الخارج مثل الفساد والرشوة والزعرنة.
- في "أوسلو" تنازلت القيادة المفاوضة عن 78 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية، التي تبلغ مساحتها أكثر من 27 ألف كيلومتر مربع، مساحة الضفة الغربية منها 5800 كيلومترًا مربعًا، تشكل نحو 22 بالمئة من المساحة الكلية لفلسطين، بينما تبلغ مساحة قطاع غزة 365 كيلومترًا مربعًا وتشكل 1.3 بالمئة من فلسطين التاريخية. ويبلغ عدد سكان الأراضي المحتلة في 1967 نحو 4.8 مليون نسمة، وفلسطيني أراضي ال 48 نحو 1.5 مليون نسمة، بينما يبلغ تعداد فلسطينيي الشتات أكثر من 5.3 مليون نسمة.
وعندما تأتي صفقة القرن لتقتطع 30 بالمئة من أراضي الضفة (1740 كيلومتر مربع في غور الاردن)، فإن أكثر من 82 بالمئة من أراضي فلسطين التاريخية ستكون في قبضة الصهاينة، هذا إذا صدق الصهاينة في صفقة القرن واكتفوا ب30 بالمئة، فالتاريخ يؤكد أنهم أكبر لصوص وقراصنة في التاريخ، حيث يشهد قرار التقسيم في 1947 وحرب حزيران واتفاق اوسلو وما بعده من اتفاقات ومذكرات تفاهم ومؤتمرات على أن الصهاينة يتصرفون في موضوعة الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع وجود وليس صراع حدود، بخلاف أغلب النظم العربية والسلطة الفلسطينية، حيث المراهنة هنا على "نزاهة" الوسيط الأمريكي، هذا الوسيط الذي يؤكد في كل مناسبة التزامه بأمن الكيان وضمان تفوقه على الدول العربية مجتمعة، ويقدم الدعم المادي والسياسي والمعنوي المستمر له كي يبقى شرطيًا في المنطقة ينفذ متطلبات المصالح الامريكية والغربية.
لم يحل اتفاق أوسلو أي من عقد الاحتلال، بل فاقمها إلى درجة لم يعد التماشي معها أمرًا طبيعيًا، وموضوعة المياه مثالًا على البطش الصهيوني وامتداده إلى مختلف القضايا. فاحتلال الكيان الصهيوني لكل فلسطين، جعله يسيطر على كل مصادر المياه السطحية والجوفية، وقد أصدرت سلطات الاحتلال الأوامر العسكرية المتتابعة التي جعلت المياه أملاك دولة لا يمكن التصرف فيها إلا بتصريحات خاصة من الحاكم العسكري، وهذا لا يصدرها. وحتى اتفاقيات أوسلو المهينة لم تغير الصلف الصهيوني الذي استمر في مصادرة المياه من الجانب الفلسطيني وحرمانه من حقوقه، الأمر الذي قلص حصة المواطن الفلسطيني من المياه إلى مادون الحد الأدنى من القياس العالمي، حيث يبلغ استهلاك الفرد الفلسطيني من المياه ما متوسطه 72 لترًا للفرد يوميًا، مقابل 300 لترًا يوميًا استهلاك الفرد الصهيوني، أي إنه يزيد بنحو أربعة أضعاف، علمًا أن المتوسط الذي تحدده منظمة الصحة العالمية يبلغ متوسطه 100 لتر يوميًا. وفي العديد من التجمعات الفلسطينية لا يزيد استهلاك الفرد عن 20 لترًا يوميًا، وهو المعدل الذي حددته منظمة الصحة العالمية لحالات الطوارئ وليس للاستهلاك في الأوضاع الطبيعية.
خلاصة القول أن أي نظام عربي لا يعادي الحركة الصهيونية ولا يقف إلى جانب شعب فلسطين من أجل تحرير أرضه وضد أي محاولات للتطبيع معه ولا يقف ضد صفقة القرن، هو نظام لا يعول عليه ولا يؤتمن على إدارة شؤون البلد التي يحكمها. فمسؤولية إسقاط صفقة القرن لا تتوقف على الجانب الفلسطيني، الذي يتحمل قسطه من المسؤولية، بل أن النظام الرسمي العربي هو المسؤول الرئيس والجمهور العربي يتحمل نسبته من المسؤولية في مواجهة هذا الزحف الأسود الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية بمؤسساتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.