بقلم/ شريف الحلبي
بالصوت والصورة تابع العالم أجمع الإعلان الأمريكي عن ما يسمى بـ "صفقة القرن"، وهي في الحقيقة سرقة القرن، ولكنها سرقة من نوع آخر، فالسارقون عادةً ما يتخفّون ويتسترون خجلاً من صنيعهم، وخشيةً من ملاحقتهم، فهم يدركون أنهم يتحصلون على ما لا حق لهم فيه، أما السارقون الجدد - ترامب ونتانياهو وزمرتهم – وعلى خطى أسلافهم من كبار اللصوص، يمارسون نوعاً جديداً من السرقة الوقحة، في وضح النهار وفي بثٍ حيٍّ ومباشر، وأمام عددٍ من شهود الزور ومنهم أخوة لأصحاب الحق في الدين واللغة والقومية وأصدقائهم وجيرانهم يصفقون للسارقين ويلتقطون معهم الصور التذكارية!، كما ان الحق المسروق ليس ملكاً لشخص أو عائلة أو قوم أو طائفة، وإنما هو ملك ما يقارب المليار ونصف مسلم وعربي في العالم، حقٌ يتضمن الجغرافيا والتاريخ والحضارة ومهد الديانات السماوية، فهو إرث الأنبياء، وفيه قبلة المسلمين الاولى، ومعراج نبيهم إلى السماء، إنها فلسطين الأرض التي باركها الله في جميع الكتب السماوية المقدسة، تعاقبت فيها الحضارات وانكسرت أمام صمود أهلها الامبراطوريات، ولا تزال شامخةً عزيزة في وجه المؤامرات، ليس هذا فحسب، وإنما يطلب السارقون من أصحاب الحق أن يستسلموا لحادثة السرقة، ويُسهلون إتمامها، وإلاّ ... هذا الحدث التاريخي، والقنبلة المدوية التي فجرها ترامب ليس حدثاٌ عابراً أو هيناً، فهو له ما بعده، فوعد بلفور الذي تجرعنا مرارته ولانزال منذ سنوات بدأ بكلمات، لذلك من المهم التوقف والتأمل والقراءة الدقيقة، ومجابهة اللصوص بكل الأدوات الممكنة لأننا أبناء هذا الحق المسروق، ونحن الزرع الذي نبت في ترابه الطاهر.
لقد أردت من خلال هذا المقال - على جزأين - أن أسلط الضوء على عددٍ من النقاط الهامة المتعلقة بالصفقة من حيث المنشأ والتوقيت والدلالات وسبل المواجهة، دون أن اخوض في تفاصيلها لأن خطوطها العريضة أصبحت معلومة وستكون التفاصيل أكثر سوءاً، وسأجمل ما أريد أن أضعه بين يدي القارئ في التالي:
أولاً/ منشأ الصفقة
المتابع للشأن الصهيوني، والعلاقة الاستراتيجية بل أقول العضوية بين أمريكا والكيان الصهيوني يدرك تماماً أن الصفقة لم تكن وليدة سنوات حكم ترامب كما ادّعى عند إعلانها، بل إن هذه الخارطة المفاهيمية تمثل خلاصة أحلام اليمين المتطرف في دولة الكيان الصهيوني منذ عقود، حيث يعبّر رموزه عن مضامينها سراً وعلانيةً بين الفترة والأخرى، ويفوز مرشحوه بالاستناد إلى معظمها كبرنامج انتخابي، وإن لم يتم تأطيرها عبر سنوات مضت في مبادرة او اتفاقية، إلاّ أنها بمجملها متفرقة أو مجتمعة، مُطبَّقة على الأرض أو مُعَلّقة أو مؤجلة كانت نسخة من سرقة القرن، وكانت دائماً تجد لها غطاءً أمريكياً بسبب العلاقة العضوية مع الكيان الصهيوني، وقوة تأثير اللوبي الصهيوني في السياسة الامريكية، حيث يشتد عود الظهير الأمريكي لليمين الصهيوني المتطرف في فترة حكم الجمهوريين لأمريكا ويتراخى قليلاً عندما يحكم الديمقراطيون، ويؤكد ذلك ما صرّح به كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات من أن نسخة من هذه الصفقة طرحها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو في العام 2012م، وبالتالي ما حدث هو قولبة وتأطير لأطماع وطموحات عمرها يمتد لعشرات السنين لليمين الصهيوني المتطرف، وإخراجها على شكل "صفقة" تبنتها وتريد فرضها على الفلسطينيين والعرب أكثر الحكومات الأمريكية لعباً من فوق الطاولة، وأكثرها وضوحاً في كشف الوجه الحقيقي لأكبر قوة استكبار عالمي، والراعي الرسمي للأطماع الصهيونية.
ثانياً/ توقيت إعلان الصفقة
جاء إعلان الصفقة وسط مناخ حافل بالمتغيرات والأحداث على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، إذ تم اختيار هذا التوقيت بقصد وضمن معطيات لابد من التوقف عندها وهي:
1- محلياً (على الصعيد الفلسطيني – على صعيد الكيان الصهيوني)
1-1 على الصعيد الفلسطيني
في قراءة سريعة للواقع الفلسطيني في العقد الأخير نجد عدداً من نقاط الضعف والتهديدات التي كان لها ارتدادات سلبية خطيرة على القضية الفلسطينية، ومثلت ثقوب سوداء وفجوات واضحة استغلها الكيان الصهيوني لصالحه، والمؤسف أنه تم تنفيذها بأيدي فلسطينية، حيث تحولت إلى عامل قوة في يد العدو وفرص حقيقية للانقضاض على حقوقنا، وسهلت تشكيل الإطار المفاهيمي لـ "الصفقة" منذ سنوات، ومن أبرزها:
الانقسام الفلسطيني
تجاوزت تأثيرات الانقسام السلبية حدود الأحزاب التي صنعته، ليمتد إلى الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للكل الفلسطيني في الداخل تقريباً، خصوصاً في قطاع غزة الذي يمثل الخزان الثوري، لقد صنع الانقسام ما لم يصنعه الاحتلال من الكراهية والأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، وأشاع حالة من عدم الثقة والقناعة بقيادة الأحزاب وخطها السياسي عند البعض، وولّد حالة من اليأس والإحباط في أوساط الكثير من الشباب الذين ركبوا قوارب الموت وعبروا الحدود والسدود هرباً من الواقع وانسداد الأفق، ولم يعد الفلسطيني يجد ذاك التعاطف مع قضيته من الشعوب القريبة والبعيدة، ناهيك عن أن الانقسام قتل فرص التوافق على برنامج وطني جامع يمثل سداً منيعاً وحصنا حصيناً أمام المؤامرات، فجاءت الصفقة في قمة التشتت والانقسام الفلسطيني، والاختلاف في البرامج والرؤى السياسية.
التنسيق الأمني
لقد بات واضحاً من خلال الممارسة أن من أبرز الأدوار الوظيفية للسلطة الفلسطينية هو فاعليتها في التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني تحت عنوان مكافحة الإرهاب استجابة لإملاءات اتفاقية أوسلو، على اعتبار أن المقاومة الفلسطينية المسلحة إرهاباًّ! وقد وقعت السلطة الفلسطينية بروتوكولات في هذا المجال مع عدد (83) من الدول العربية والغربية وعلى رأسها وكالة الاستخبارات الأمريكية ((CIA، حيث كان من نتائج ذلك تحييد الضفة الغربية – الجبهة الأهم – في المواجهة مع الكيان الصهيوني، وفتحت المجال أمام الكيان الصهيوني لتثبيت وقائع على الأرض مثلت أساسات لـ "صفقة القرن" يمكن البناء عليها كتوسيع الاستيطان وتهويد القدس وتهجير الأهالي وابتلاع مزيدٍ من الأراضي الفلسطينية في ظل اختلال موازين القوى لصالح العدو، إضافة إلى أن التنسيق الأمني حدَّ بشكل كبير من قدرة الحركات الفلسطينية المقاومة على تنفيذ عمليات جهادية في الداخل المحتل، مما أوجد حالة من الاستقرار الأمني بمفهومه الحيوي في السنوات الأخيرة، نتج عنها تشجيع عدد من الصهاينة حول العالم للهجرة إلى فلسطين، للتمهيد لإنجاز التجمع اليهودي الكبير والذي يسهل الإعلان عن يهودية الدولة من جهة، ومن جهة أخرى يساهم في حل تحدي اختلال التوازن الديمغرافي في الداخل المحتل، والذي يمثل قنبلة موقوتة وتحدي حقيقي في وجه الحكومات الصهيونية المتعاقبة، لذلك نجد "الصفقة" تنص على تسليم منطقة المثلث الواقعة في الداخل المحتل والتي يقطنها مئات آلاف الفلسطينيون للسلطة الفلسطينية، كما تؤكد "الصفقة"على يهودية الدولة لتنفيذ ترانسفير قسري لفلسطينيي الداخل المحتل.
البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية
لقد تداخلت المفاهيم في رؤية منظمة التحرير الفلسطينية التي تدّعي حصرية تمثيلها للشعب الفلسطيني في إدارة الصراع مع المحتل، واختلطت الأولويات لديها، فبدلاَ من أن يتم التركيز على الغاية الكبرى المتمثلة بمشروع التحرير وإقامة الدولة المستقلة وتحقيق السيادة، أصبح التركيز على السلطة نفسها التي تحولت من أداة إلى غاية وهدف، وهو ما جعل المحافظة عليها أولوية عن المحافظة على الوطن!، وجعل قدسية نصوص أوسلو أهم من قدسية الأرض التي يتم قضمها يوماً بعد يوم، فالمنظمة متمسكة بالنص المقدس المتمثل بالمفاوضات ثم المفاوضات ثم المفاوضات كخيار استراتيجي، ونبذ المقاومة ونعتها بالإرهاب حتى الرمق الأخير، في مقابل تغول العدو، وتنصله من كافة التزاماته التي وقع عليها في اتفاقية أوسلو، وتدنيسه المقدسات وكسر المحرمات، هذا الخلط في ترتيب الأولويات، وتحديد الأدوات والوسائل المناسبة لكل مرحلة، جعل الفلسطيني مكبل وعاجز وضعيف، وجرأ الطرف الآخر لمزيدٍ من الصفعات.
لم تخلُ قراءة الواقع الفلسطيني الداخلي من نقاط قوة، شكلت تهديداً للكيان الصهيوني، وخطراً حقيقياً على مستقبله، ولم يعد يطيق تنامي عناصر القوة ومراكمتها بما يمكن ان يشكل خطراً وجودياً عليه، فأراد من خلال "الصفقة" أن يقطع الطريق على إمكانية حدوث ذلك، وأبرز نقاط القوة:
تنامي قدرات المقاومة الفلسطينية
شهد العقد الأخير ارتفاع ملحوظ في مستوى أداء قوى المقاومة الفلسطينية وتحديداً في قطاع غزة، وانتقلت غزة من مرحلة إحداث حالة من "الإزعاج" المستمر للكيان الصهيوني إلى مرحلة التأثير والخطر الإستراتيجي على الكيان الصهيوني، وقد ظهر ذلك جلياً في حروب طاحنة وجولات قتالية عديدة خاضتها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني، استطاعت خلالها أن تتسبب في تآكل قوة الردع الصهيونية، وفي إخفاق الكيان الصهيوني في بلورة فكر أمني حديث يقضي على التهديدات المباشرة وغير المباشرة، ويبدو أن هذا الخطر لم يعد مقبولاً لدى العدو الصهيوني، وجاءت "الصفقة" ببنودها لتشكل نقطة خلاص، وتركز على حماية الكيان الصهيوني من هذا الخطر، وهو ما يفسر وجود شرط من بين شروط "الصفقة" بأن يتم نزع سلاح المقاومة في غزة.
1-2 على صعيد الكيان الصهيوني
النظام السياسي للكيان الصهيوني
يعاني الكيان الصهيوني عاماً بعد عام من تصدعات في النظام السياسي، وباتت الأحزاب تتشكل وتتنافس وتثبت وجودها بقوة حضور الشخصيات التي تقودها وليس بعراقتها وإرثها التاريخي، ولا أدل على ذلك من خروج أحزاب عريقة من دائرة التأثير في السياسة "الإسرائيلية" مثل حزب العمل، وتقدُّم أحزاب حديثة النشأة مثل أبيض أزرق، كما تحول التنافس السياسي المرغوب فيه في كثير من الأحيان إلى صراعات غير مرغوب فيها، واتهامات متبادلة، وتغليب للمصلحة الشخصية والحزبية على مصلحة "الدولة" مما يؤثر سلباً في بُنيتِها، كل ذلك تسبب في حرج استراتيجي "لإسرائيل" والمتمثل في "خطاب غير مرغوب فيه على مستوى القيادة القومية" كما يكشف التقدير الاستراتيجي للعام 2020 والذي أعده معهد الامن القومي، وما يقوم به نتنياهو في محاولاته الحثيثة لإنجاز "صفقة القرن" يأتي في الدرجة الأولى في إطار تحقيق إنجاز شخصي يمكن أن يكون طوق نجاة من تهم الفساد التي تلاحقه.
التوازن الديمغرافي
لا يزال الكيان الصهيوني يعاني من هاجس الوجود الفلسطيني في الداخل المحتل، والذي يقدر تعداده بحوالي مليون ونصف المليون نسمة، وقد تُرجمت هذه الهواجس من تخوفات نظرية إلى وقائع في انتخابات الكنيست الأخيرة، حيث حلّت القائمة العربية الموحدة في المركز الثالث كأكبر قوة معارضة لأول مرة في تاريخها، وهذا ينذر بخطر مستقبلي على الخارطة الديمغرافية للكيان الصهيوني وما يترتب على ذلك من استحقاقات - من وجهة نظر قادة الكيان الصهيوني، لذلك جاءت "صفقة القرن" لتطرح بوضوح ضرورة الاعتراف بيهودية الدولة، والتخلص من منطقة المثلث ذات الأغلبية العربية، ما يمهد لعملية استئصال للوجود الفلسطيني في الداخل المحتل، وحسم هاجس اختلال التوازن الديمغرافي.
يتبع ...