بداية, فإن المشهد العربي بسوء أوضاعه الحالية ,كان أبعد من التخيل السوريالي السوداوي,حيث من الصعب حتى رؤية بعض الذي يجرى من أحداث على أرض الواقع ويتمثل في : استجابة متدرجة من غالبية النظام الرسمي العربي للمخططات الصهيونية كما حددتها مؤتمرات هرتسيليا العشرين : التطبيع, وفود متبادلة ,اتصالات رسمية علنية, عقد اتفاقيات , رفع الأعلام الإسرائيلية في بعض العواصم العربية على طريق شموليتها, تنسيق رسمي,الطموح إلى إقامة تحالف عربي –إسرائيلي في مجابهة بعض الظواهر (كالإرهاب مثلا, وكأن الدولة الصهيونية ليست هي مؤسسة الإرهاب الأولى وراعيته ومدبرته ومحترفة ممارسته!) . دولة الكيان الصهيوني لم تكن لتتصور السهولة التي اخترقت بها العديد من الدول العربية, وكأن الأخيرة باتت تتباهى بعلاقاتها الإسرائيلية, فإرضاء العم سام باعتباره السيد المهيمن يمر عبر القناة الإسرائيلية والصلاة باتجاه الكنيست قبل البيت الأبيض. اتفاقيات كمب ديفيد وأوسلو ووادي عربة أريد بها الوصول بالحالة العربية إلى هذه الحالة, وكأنها خطة رسمت بدقة فائقة , ذات مظاهر إسرائيلية وعربية وفلسطينية وإقليمية. إسرائيليا: استغلت دولة الكيان الصهيوني الوضع, بل حاولت خلق الفرص الموائمة لضم الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية, وها هي الجهود تبذل من قبل نتنياهو لأخذ ضوء أخضر أمريكا لضم منطقتي غور الأردن وشمال البحر الميت إلى دويلة الكيان. وهناك مشروع قانون في الكنيست لترسيم هذا الضم, أما بيني غانتس كطرف آخر في مواجهة رئيس الوزراء المنتهي الصلاحية, فوعد بضمها بعد الانتخابات الثالثة(التي ستجرى في الثاني من مارس/آذار القادم).للعلم مراقبون إسرائيليون كثيرون كما محللون سياسيون عديدون يتوقعون انتخابات رابعة وخامسة, كما تحدث عن ذلك رئيس دولة الكيان رؤبين ريفلين . بالنسبة لضم المنطقة C التي تساوي 62% من مساحة الضفة الغربية, فقد تم تشكيل لجنة لضمها برئاسة نفتالي بينيت وزير الأمن الصهيوني الفاشي لرسم خطط مراحل الضم, وهذه تسير بتسارع كبير. أيضا جيّرت إسرائيل التنسيق الأمني مع السلطة النائمة كرئيسها الغائب عن الوعي معظم الليل وآلاء النهار للحد من المقاومة حتى الشعبية منها (التي سبق وأن نادى بها عباس), والاستدلال على المناضلين وتسهيل اعتقالهم من قبل الكيان الصهيوني ,كما إحباط المئات (ووفقا للكيان آلاف) العمليات المقاومة ومنها العسكرية.بالنسبة للقطاع ,فإن دولة الكيان ستبقي على حصاره بانتظار تنفيذ بنود صفقة القرن , والذهاب باتجاه أرض سيناء (في هجرة نحو الشمال – مع الاعتذار للروائي الطيب صالح), وإقامة حزمة صغيرة من المشاريع التطويرية ,إضافة إلى ميناء ومطار تحت إمرة ومراقبة للجانب الإسرائيلي دور أساسي فيها.كما ستكون ملجأً احتياطيا إذا ما قررت دويلة الكيان إجراء ترانسفير من أي جزء فلسطيني تحتله, منطقة 1948, إضافة إلى الضفة الغربية, عدا عن أراض عربية مجاورة أخرى, فالوطن البديل لم ينتف حتى اللحظة من الأذهان والعقليات الشايلوكية الصهيونية.
عربيا, من وجهة نظر كاتب هذه السطور, في خضم تناول الحدث العربي عموما يتوجب عدم نسيان أربعة مفاصل عربية رئيسية مهمة تركت بصماتها على أحداث الواقع العربي الحالي: هزيمة عام 67, وفاة عبدالناصر وانقلاب نهج مصر ,باعتبارها أكبر وأقوى دولة عربية, اتفاقية كمب ديفيدوأوسلو ووادي عربة وتداعياتهما , وبدء انتقال الاتصالات مع الكيان الصهيوني من تحت الطاولة إلى فوقها , أحداث الربيع العربي عام 1911 في أكثر من بلد عربي ومصادرته من قوى الإخوان المسلمين (بما في ذلك انقلاب حماس على السلطة) .أيضا تنامي دور السلفية الأصولية واستعمالها إسرائيليا وأمريكيا وغربيا للإمعان في الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية في الوطن العربي والإقليم والعالم ,وقد أدّى ذلك إلى تحولات بنيوية في المجتمعات العربية, وحرف مسيرة الصراع والتناقض التناحري من اتجاهه المفترض مع العدو الصهيوني, إلى اتجاهات ثانوية أخرى, تحولت بفعل عوامل قامت بتغذيتها وكب الزيت على نارها لتتخذ الشكل التناحري في الصراع , وهو عمليا ما أضعف صراع أنظمة الممانعة العربية, من جهة ومن جهة أخرى أثرّ سلبا على قوى المقاومة الشعبية العربية .نعم,نقولها بالفم الملآن ما حصل في سوريا ليس بسيطا, وسيترك نتائجه إلى مدىً أبعد مما نتصور. هذا إضافة إلى ضعف في بنى القوى والأحزاب الوطنية والقومية والديموقراطية العربية , وضعف التنسيق فيما بينها , وعجز التجمعات والصيغ الوطنية العربية الجامعة عن مجابهة المخططات التي تستهدف الأمة العربية بكاملها, وتقصيرها في الوصول إلى الجماهير العربية العريضة, واتباعها لصيغ وآليات قديمة أكل الدهر عليها وشرب , وتحول اجتماعاتها إلى مناسبات موسمية خالية من فكر التجديد الخلاق المتوائم مع خطورة المرحلة وأحداثها, والتقصير في مجابهة زيادة تبعية النظام الرسمي العربي للسيد الأمريكي , بما يعني الإسرائيلي أيضا, واتساع مديات العلاقة مع الكيان الصهيوني . حقيقة: لا نعتبر أن إيراد(إدخال) عامل سقوط الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية عاملا قسريا فيما نكتب. لمجموعة ظروف مهمة,أولها كان على قوى التحرر والتقدم والعدالة في العالم إيجاد صيغة تعويضية وجرّ روسيا(التي هي ليست ولن تكون بديلا للاتحاد السوفييتي ومجموع الدول الاشتراكية) إلى مواقف أكثر عمقا في تأييد حركات التحرر العالمي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية, وتشكيل ما يشبه تجمع عالمي لمساندة قوى التحرر, كما العمل على دفع روسيا إلى مواقف أكثر راديكالية ,وأيضا تقليل علاقاتها المتطورة جدا مع الكيان الصهيوني, بالطبع من الصعب إيراد أسباب هذا التطور وعوامله في مقالة صحفية قصيرة , ونقولها بكل صدق كان ممكنا ذلك لو جرى العمل الدؤوب على هذا الصعيد, نعم, نحن في حالة تغيير مستمر في مسار الأحداث, وسرعة انتقالها من حالة إلى أخرى, مما يعقّد إمكانية التنبؤ بما تحدثه من تغيرات في مناطق حدوثها, إلا أن مجمل هذه التغيرات كان له أثره على طبيعة ومسار الصراع العربي الصهيوني كما ذكرنا. كما علينا أن نرى الحالة في العديد من الأقطار العربية: لبنان, العراق, اليمن, ليبيا, الجزائر والسودان وغيرها, والقارىء العربي يدرك تفاصيل ما نعنيه من أحداث تدور في كل منها, والتدخل الأمريكي الصهيوني الغربي فيها, وهو ما يصب في صالح مخططات الكيان الصهيوني وأهدافه.
إقليميا :منذ خطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان عام 2009 تحول الموضوع النووي الإيراني( وقد كان يشير له قبلا!) إلى التحدي الأساسي بالنسبة لدويلة الكيان الصهيوني, ولطالما حضّ باراك أوباما للقيام بعملية عسكرية لتدمير المشروع,لكن الأخير فرمله لخشيته الحقيقية من تداعياته الخطرة على القوات والقواعد الأميركية في الخليج والمنطقة عموما, ومنعَه عمليا من القيام بضربة إسرائيلية منفردة . بدورها كرّست مؤتمرات هرتسيليا الاستراتيجية الدورية تعظيم هذا الخطر.إيران بدورها كانت شديدة الوضوح في التصريح,بأن أية ضربة توجه إليها ستقوم بقصف إسرائيل(عدا عن القواعد الأمريكية في المنطقة) وإغلاق خليج هرمز الحيوي جدا للملاحة البحرية ولنقل النفط والبضائع تنفيذا للاتفاقيات التجارية بين إيران والدول الأوروبية. مضت الأمور بين إيران والكيان الصهيوني بين مدّ وجزر حتى مجىء ترامب المضاهي للكيان في الحديث عن الخطر الإيراني ,فكانت خطوته الأولى الانسحاب من الاتفاق النووي, الأمر الذي عمل على المزيد من توتير الأجواء الأمريكية الإيرانية الأمريكية, ترامب يقف على يمين اليمين الفاشي الصهيوني, وكان قراره حول القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها ,وتأييد كل خطوات الضم بما في ذلك هضبة الجولان والاستيطان والاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين والعرب. حاولت أمريكا وإسرائيل الاستعاضة عن ضرب إيران مباشرة ,بتوجيه ضربات عسكرية إلى أهداف إيرانية في سوريا. تطور الوضع إلى اغتيال واشنطن لقائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني والشهيد أبو مهدي المهتدس ورفاقهما على طريق مطار بغداد والرّد,القصف الإيراني لقاعدتين أمريكيتين في العراق وإنكار أمريكا الكاذب بوجود خسائر, فبعد أيام تبين العكس. الملفت للنظر صهيونيا أنه بدأ اعتبار صواريخ حزب الله الاستراتيجية الدقيقة الإصابة هي من أكبر الأخطار على إسرائيل. على المدى القريب المنظور ليس من المتوقع تصعيدا دراماتيكيا على صعيد المواجهة الأمريكية الإيرانية, وبخاصة أننا عل أبواب انتخابات أمريكية, وترامب مأزوم في قضية عزله, تماما كحليفه نتنياهو الذي من المستبعد إعطاءه حصانة برلمانية ,وعلى الأغلب ستجري محاكمته على قضايا الفساد الثلاث بعد الانتخابات مباشرة.
على الصعيد التركي, فإن السلطان السلجوقي الطوراني أردوغان يحاول إعادة السيناريو الذي اتبعه في سوريا, على الأرض الليبية فأدخل قوات تركية إليها لمناصرة حليفه وعميله رئيس الوزراء فايز السراج, لكن الوضع الليبي أكثر تعقيدا مما يعتقده أردوغان المصاب بجنون العظيمة ,الذي يعمل جاهدا لإعادة أمجاد السلاطين العثمانيين ,حتى باعتباره الموصل وحلب ولايتين عثمانيتين انتزعتا من السلطنة العثمانية.
لا تأتي الرياح في ليبيا كما تشتهي سفن أردوغان فهناك عوامل فاعلة أخرى في ليبيا: روسيا والإمارات وبعض الدول الأخرى ,التي تستغل قوة الجنرال حفتر القادرة, والذي يسيطر على معظم الأراضي الليبية, ويبقى مؤتمر بون الأخير وقراراته بوقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة , وعدم تصدير السلاح إلى أيّ منها ,وفقا لقرارات الأمم المتحدة,تبقى حبرا على ورق, صحيح أن دويلة الكيان الصهيوني هي المستفيد مما يجري نت أحداث في المنطقة والإقليم. لكن الزمن لا يقف عند نقطة ,فالأحداث متسارعة ومتحركة , ولن تبقى واشنطن ولا تل أبيب من يكتبا جدول أعمال المنطقة.
المصدر / بوابة الهدف