بقلم د. وليد القططي
انتج تلفزيون فلسطين عملاً فنياً إبداعياً أطلق عليه اسم (ملاك السلام)، تجلّت فيه العبقرية الفنية الفلسطينية الجبّارة، وانجلت فيه الألمعية الشعرية الوطنية المدرارة، فأسفرت عن أوبريت (ملاك السلام)، يُشمُّ في كلماتهِ عبقُ الزمن العربي الجميل، ويُسمعُ في ألحانهِ ترانيمُ أيام الفن الأصيل، ويُحسُ من طريقةِ أدائهِ عودةُ عصر الاستبداد الجليل. ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه الشعوب العربية وفّيةً لزعمائها، ومخلصةً لقادتها، ومُحبةً لملوكها، حتى لو جلدوا ظهورها، وقهروا إرادتها، ونهبوا ثرواتها. وتلك الأيام السعيدة التي كان شعراء ومطربو العرب يصدحون ليل نهار بما لذ وطاب من أناشيد التمجيد لصناع النصر المجيد، وأغاني التحميد لأنعمُ أصحاب الجلالة والفخامة العبيد. وذلك كله يُعبُّر عن قيمّ الولاء والفداء، ومعاني الاحتفاء والفناء، وقد يكون أحد أنواع البلية والبلاء.
هذا النجاح في العمل الفني الرائع المبدع (ملاك السلام) أخرج أضغان أعداء النجاح والصلاح أصدقاء الفشل والطلاح، فطفقوا يرمونه بطوب الحقد وحجارة الحسد، وشرعوا يرشقونه بسهام الشحناء ورماح البغضاء، لا لشيء إلاّ لأنهم فاشلون لا يعرفون من أين تؤكل الكتف، وفضلاً عن ذلك عاجزون عن التملّق والتشقلب. وهذا أكبر دليل على عظمة الأوبريت الكبير، وهذا ما أكده الكاتب الكبير مصطفى أمين بقوله "إذا قمت بعملٍ ناجح، وبدأ الناس يرمونك بالطوب، فاعلم أنك وصلت بلاط المجد، وأن المدفعية لا تُطلق في وجهك بل احتفاء بقدومك". ولذلك بدأت الانتقادات السخيفة تنهال من كلِ صوبٍ وحدبٍ على الاوبريت، كجلمودِ صخرٍ حطّهُ السيلُ من علٍ.
من هذه السهام المسمومة والانتقادات المذمومة لأوبريت (ملاك السلام) الدخول من باب التكلفة المالية الكبيرة لإنتاج الأوبريت رغم الأزمة المالية - رغم أن الوزير دبّر حاله - زاعمين أن ذوي الشهداء والأسرى والجرحى المقطوعة رواتبهم أولى بهذا المال، في محاولة لإثارة الشبهات وتأجيج النعرات في زعم باطل من جذوره، فقد اختار الشهداء والأسرى والجرحى طريق النضال الوطني بمحض إرادتهم الحُرة، ولم يجبرهم الوزير على هذا العمل الوطني المشبوه، واختار غيرهم من أولي الأمر وعلية القوم ونخبة المجتمع – وهم الأكثر ذكاء وفطنة - طريق جني ثمار نضالهم، وفق نظرية "البندقية تزرع والسياسة تحصد"، فهاهم المناضلون زرعوا فأكلوا على رؤوسهم، والسياسيون حصدوا فأكلوا في بطونهم، فأرجو سحب هذا النقد من التداول، فالزعم أن منتجي الأوبريت استغلوا المال العام للتقرّب من الرئيس كذب بواح وتوزيع للاتهامات سداح مداح.
ومن هذه الانتقادات المذؤومة، ذات الرائحة المشؤومة، أن الأوبريت تُمجّد بطل (ملاك السلام) بشيء مفقود، إضافة إلى ذلك غير موجود، فأين السلام في أرض السلام؟!، ثم أين السلام الذي لا يشعر به المعارضون في السجون، الذين يتعرّضون لسوء المعاملة والتعذيب حسب تقارير منظمة (هيومن رايتس ووتش) المشبوهة. والحقيقة أن اعتقال معارضي السلام هو أكبر خدمة للسلام، وأن أعداء السلام الأشرار ليس لهم إلاّ النار والشنار.
ومنها أن الأوبريت يمدح البطل بصفاتِ ليست فيه، وسماتٍ لم يُسمع أنها خرجت من فيه، وهي حمل الرصاص وبعثرة أرتال العدو العسكرية، فمبالغة الشاعر تكون بصفات موجودة وسمات معهودة بالممدوح، ولا يكن المدح بشيء مفقود وغير موجود، والحقيقة أن المنتقدين لعبوا لعبةً أمنية مكشوفة مارسها (العصافير) في أقبية التحقيق، مضمونها استفزاز المعتقلين بنفي الوطنية عنهم ثم اتهامهم بالعمالة، ليقوموا بكشف المستور مما عملوه ولم يكشفوه للمحققين الصهاينة، فيقعوا في الفخ، ثم لا ينفعهم قول (أخ).
أوبريت (ملاك السلام) رغم كل هذه الانتقادات المغرضة يشتمل على كل مقوّمات الأوبريت الفنية وغير الفنية، ويزيد عليها الروح الوطنية ، بعيداً عن الابتذال والانتهازية، أو الامتهان والوصولية. فمعنى اوبريت في معجم المعاني الجامع هو: " مسرحية غنائية قصيرة تشتمل عادة على حبكة عاطفية نهايتها سعيدة "، وهو فن يدمج بين المسرح والغناء والموسيقى، ورغم غياب عنصر الحوار الغنائي الواضح في الاوبريت إلا أن ذلك لا يمنع إضافته إلى أشهر الاوبريتات العربية المصرية مثل أوبريت (الليلة الكبيرة)، وأوبريت (الوطن الأكبر) وأوبريت (الحلم العربي). فالحبكة العاطفية الوطنية والفياضة موجودة في كل ثنايا كلمات الأوبريت وأداء المنشدين وجمود الكورال خلف الموسيقيين، والحبكة خلطت بين المأساة والملهاة، في بوتقةٍ واحدة، أخرجت صورة جمالية رائعة من صورها رؤية مأساة الأعداء وهم يسقطون مع وعدهم السراب، وملهاة الشعب وهويرى البطل يبطح الأعداء أرضاً، ويُجندّلُ الخصوم فتكاً. والنهاية السعيدة في المشهد الأخير فمنظر البطل وهو يُبعثّر أرتال (العدى)، ويُجرّدُ أنياب ومخالب الطغاة، ليس بالرصاص أو الصواريخ العبثية (الهبلة)، بل بالحنكة المتوّقدة، والحكمةِ المتوّهجة، والمُسكةِ (العقل الراجح) المتأججة، فكانت إبداع على إبداع.
أوبريت (ملاك السلام) عنوان الفن الأصيل الراقي، والطرب الأثيل السامي، وابداع انطلق من زمن العمالقة الكبار؛ بل تجاوزهم في فن التفخيم، وأصول التعظيم، وقواعد التضخيم، فالشاعر العراقي الكبير محمد الجواهري مدح سيده جلالة الملك الحسين الهاشمي المفُدى في قصيدة (الملك الأجل) التي مطلعها " يا سيدي أسعف فمي..."، ولم يزد فيها استخدام كلمة (يا سيدي) عن ثلاث مرات، بينما شاعرنا الكبير كررها أربعة عشر مرة، والتكرار هنا هدفه إظهار الاحترام والتقدير، وأُريد به (التسحيج والتدهين). بل أن الشاعر المصري الكبير صلاح جاهين عندما أراد أن يمدح الرئيس جمال عبدالناصر في أُغنية (ناصر يا حرية) التي مطلعها "ناصر يا حرية يا وطنية ياروح الأمة العربية" ناداه باسمه المُجرد بل جزء منه (ناصر)، بدون استخدام كلمة (يا سيدي)، وهذا نوع من عدم الاحترام للقادة والزعماء فطن إليه شاعرنا فكررها أربعة عشر مرة منعاً للشبهة ودرءاً للريبة.
مسك الكلام في الختام، أن سهام الناقدين كثيرة وفوق ذلك غزيرة، لا تتسع مساحة المقال بالرد عليها في هذا المقام، وأخذنا أمثلة منها لتقوية إيمان ضعاف النفوس بوطنهم وقادتهم وفنهم، وتركنا معظمها بعد أن تأكدنا بأنها ليست أكثر من تُرهات وتفاهات انتجتها عقولٍ مريضة، ونفوسٍ عليلة، وشخوصٍ سقيمة... ليس لها عمل إلاّ إحباط الناجحين، وتثبيط المجتهدين، والطعن في إنجازات المبدعين. ولا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، خاصة إذا كانت تلك الانجازات لوجه الشعب والوطن، وليست لوجه السلطان والوثن. ونابعة من الإخلاص والوفاء وليس النفاق والرياء.