نبيل السهلي
بعد إعلان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عن تخفيف حدة تعامل أمريكا مع مشاريع الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ تكون إدارة ترامب قد قررت تغيير موقف أمريكا بشكل جذري من قضية الاستيطان الصهيوني، باعتباره غير مخالف للقوانين الدولية، وذلك خلافا للقرار الأمريكي المعمول به منذ عام 1978، الذي يؤكد على أن المستوطنات مخالفة للقوانين الدولية أساساً.
الانحياز المطلق
ثمة مواقف متضاربة لبعض الإدارات الأمريكية إزاء قضية الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة في يونيو/ حزيران 67، ففي عام 1978، توصلت إدارة جيمي كارتر إلى أن بناء ما يسمى «المستوطنات الصهيونية المدنية» مخالف للقانون الدولي، وقد اختلف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مع هذا الموقف في عام 1981، مؤكدا على أنه لا يرى أن المستوطنات غير قانونية بطبيعتها. ومنذ ذلك الحين، تبنت الولايات المتحدة موقفا يتضمن أن «المستوطنات غير شرعية»، رغم أنها ليست «غير قانونية»، وفي الوقت نفسه لوحت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بإسقاط أي مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدين النشاطات الاستيطانية الصهيونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. على الرغم من ذلك، كسر الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما القاعدة المذكورة، حيث طالب بتجميد النشاطات الاستيطانية وليس تفكيكها، وفي أواخر عام 2016 بالامتناع عن استخدام حق الاعتراض (فيتو) ضد قرار للأمم المتحدة يحث على نهاية ما يدعى بالمستوطنات الصهيونية غير القانونية. وتحول الموقف الأمريكي بشكل جذري إزاء قضية المستوطنات، حيث تبنت إدارة ترامب نهجا أكثر تسامحا تجاه بناء المستوطنات الصهيونية واعتبرت الاستيطان قانونياً، وقد رحبت دولة الاحتلال الصهيوني بالتحرك الأمريكي اللافت. ولهذا يمكن الجزم بأن شرعنه الاستيطان يعتبر الهدية الأثمن لإدارة ترامب لجهة تدعيم حكم اليمين الصهيوني، ويخدم في الوقت ذاته الموقف المتشدد حيال المستوطنات، الذي اعتمده نتنياهو خلال فترات حكمه، الأمر الذي عززّ في النهاية الشراكة القوية بين إدارة ترامب ودولة الاحتلال الصهيوني بغرض الانقضاض على الحقوق الفلسطينية.
يعتبر قرار إدارة ترامب حول شرعنة المستوطنات الصهيونية تحولاً نوعياً في مواقف الإدارات الأمريكية، في ما يتعلق بالتعامل مع الصراع في الشرق الأوسط. وتبعاً للموقف الأمريكي الجديد الذي يتناغم بشكل جلي مع الموقف المبدئي لدولة الاحتلال، الداعي إلى تعزيز الاستيطان في كل ما يسمى «أرض إسرائيل»، والذهاب إلى أبعد من ذلك، حيث ستسعى أي حكومة مقبلة إلى ضم الأغوار ومساحات واسعة من الضفة الغربية للسيادة الصهيونية، عبر تفعيل معنى ومضمون السياسة الأمريكية الجديدة، فشرعنة الاستيطان تعزز إعلان ترامب «الصفقة» وسياساته التي تم الكشف عنها تدريجياً خلال السنوات الثلاث الماضية، وتؤكد على أن حدود 1967 ما عادت لتكون أساساً وأرضية تفضي لإنشاء دولة فلسطينية بالمعنى السيادي للكلمة.
الجغرافيا والديموغرافيا
مع إعلان إدارة ترامب حول شرعنة المستوطنات الصهيونية، تكون (176) مستوطنة يسكنها قرابة 670 ألف مستوطن صهيوني، قد حظيت بشرعية أمريكية وباتت جزءا من دولة الاحتلال، هذا فضلاً عن سيطرتها على مساحة تصل إلى 3458 كيلومترا مربعا من مساحة الضفة الغربية البالغة 5664 كيلومترا مربعا مصنفة كمنطقة (ج) وفق اتفاقية إعلان المبادئ (أوسلو)، أي السيطرة المباشرة على ثلثي مساحة الضفة الغربية، لكن في مقابل ذلك تعتبر المستوطنات الصهيونية، مناقضة لكل المبادئ والأعراف الدولية، وفي المقدمة منها، ميثاق جنيف الرابع حول قوانين الحرب في عام 1949، الذي يفصِّل سلسلة طويلة من المحظورات المفروضة على قوة الاحتلال، وجوهر الميثاق، يحظر على المحتل توطين سكانه في الأراضي المحتلة، وهو ما أعاد التأكيد عليه العديد من قرارات الشرعية الدولية، سواء قرارات مجلس الأمن الدولي، أو الجمعية العمومية، وبالتالي؛ فإن فرض الأمر الواقع بالقوة لا يمكن أن يشرعن ويصبح بالتالي قانونيا. وقد صدرت رزمة من القرارات والمبادئ والاتفاقات الدولية التي تؤكد ذلك، وتنكر أي صفة قانونية للاستيطان الصهيوني، أو الضم، وتطالب بإلغائه، وتفكيك المستوطنات كمعالم احتلالية، بما في ذلك الاستيطان الصهيوني في مدينة القدس، وأهمها اتفاقية لاهاي عام 1907، معاهدة جنيف الرابعة لعام 1949، فضلاً عن قرارات مجلس الأمن، ومنها القرار رقم 446 لسنة 1979 الذي أكد على أن الاستيطان ونقل المستوطنين الصهاينة للأراضي الفلسطينية غير شرعي، وكذلك القرار رقم 452 لسنة 1979 ويقضي بوقف الاستيطان، حتى في مدينة القدس، وبعدم الاعتراف بضمها.
إن شرعنة إدارة ترامب للمستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية أخيراً، يعتبر استمراراً للعدوان الذي تقوده الإدارة منذ ثلاث سنوات على حقوق الشعب الفلسطيني التي أقرتها القرارات الدولية، ويكشف في الوقت ذاته عن الشراكة الكاملة مع المحتل الصهيوني، وبهذا تضع إدارة ترامب نفسها في مواجهة للقانون الدولي وفرض شريعة الغاب، لكن الثابت أن تلك الإدارة غير مؤهلة أو مخولة بإلغاء قرارات الشرعية الدولية حول فلسطين، ولا يحق لها صياغة القانون الدولي وشرعنة الاستيطان الصهيوني غير الشرعي أصلاً بناء على رغباتها اليمينية والعنصرية.