صدرت صحيفة "لومانيتيه" الفرنسية يوم الأربعاء (٢٠ نوفمبر/ تشرين الثاني) بواجهة صريحة في التعبير عن إقدام الإدارة الأمريكية على محاولة شرعنة الاستيطان. خرجت الصحيفة التي أسّسها القيادي الاشتراكي البارز جان جوريه في بدايات القرن العشرين بعنوان عريض جاء فيه إنّ "ترمب يريد شطب فلسطين من الخريطة".
بدا العنوان استثنائياً بين شواغل الصحافة الأوروبية المتفرقة التي انشغلت بأفراح مؤتمر مدريد (1991) ثم اتفاق أوسلو (1993-1994) ولا تبدو الآن مكترثة بالمسيرة الجنائزية لمشروع التسوية. أما على المستوى السياسي فما زالت التحفظات الأوروبية على مواقف إدارة ترمب المتعاقبة تمضي على استحياء، رغم تمسّك أوروبا بعدم قانونية المستوطنات التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي التي احتلها سنة 1967.
جاء التطوّر الجديد بعد أن ألقى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو قنبلته المدوية على مرأى من العالم يوم الاثنين 18 نوفمبر/ تشرين الثاني، بزعمه أنّ مستوطنات الاحتلال لا تتعارض مع القانون الدولي، بما يعني شرعنة للمستوطنات وسعياً لتأبيد الاحتلال بالأحرى.
كان معروفاً أنّ إدارة دونالد ترمب ستقولها عاجلاً أم آجلاً، فهي عازمة على فرض مشروعها الذي يقضي بتصفية القضية الفلسطينية ويهيل التراب على وعود "عملية سلام الشرق الأوسط" وصولاً إلى خطة "الرباعية" الدولية التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. كان العنوان المركزي عبر عقود ثلاثة هو شعار "حل الدولتين" الذي يعني "إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش في أمن وسلام مع دولة إسرائيل".
تبدّدت صفة "قابلة للحياة" مع القضم المتزايد من أراضي الضفة الغربية، وصارت "الدولة" الموعودة وهماً كبيراً مع وقائع استجدّت على الأرض والغطاء السياسي الذي تمنحه واشنطن لسياسات الاحتلال؛ خاصة في عهد دونالد ترمب بإدارته التي يصعب تفريق مواقفها عن سلوك حكومات بنيامين نتنياهو وسابقيه في المنصب.
ما زال الأوروبيون في الجانب الآخر من الأطلسي على وعدهم الكبير للشعب الفلسطيني؛ بأنّ دولة مستقلة آتية عبر المفاوضات. عجزت المقولة عن التحوّل إلى واقع في عهود أمريكية سابقة وصولاً إلى باراك أوباما؛ وتنعدم فرصها في عهد ترمب الذي أخرج القدس من المفاوضات وجعلها "عاصمة أبدية" للاحتلال، ثم اعتبر الجولان "إسرائيلية" فكوفئ بمستوطنة تحمل اسمه فوق الهضبة السورية المحتلة، وباشرت إدارته الضغط على ملف اللاجئين الفلسطينيين وأفقرت "الأونروا".
وليس بعيداً عن الغطاء الذي تمنحه الإدارة الأمريكية الحالية أصدر برلمان الاحتلال (الكنيست) قانون "الدولة القومية اليهودية"، بينما تواصل الولايات المتحدة تضييقها على الشعب الفلسطيني مع ممارسة الابتزاز المالي مع السلطة التي يُفترض أن تصير دولة في يوم ما.
معنى هذه الانزلاقات أنّ "ترمب يريد شطب فلسطين من الخريطة"، حسب عنوان "لومانيتيه"، وهو ما يضع الأوروبيين في مواجهة وعودهم الوهمية. ما زالت أوروبا متمسكة بمشروع "الرباعية"، ورفضت الالتحاق بهذه المواقف الأمريكية المتعاقبة، كما اتضح بعد إعلان ترمب بشأن القدس في ديسمبر/ كانون الأول 2017، وظلّت على هذا الحال حتى بعد تصريحات بومبيو، فعواصم القرار الأوروبي تؤكد أنّ المستوطنات غير شرعية.
ما انتهى الموقف إليه الآن أنّ وعود التسوية السياسية تنهار على مرأى من الجميع ويتّضح أنها كانت وهماً كبيراً، وأنّ حكومات الاحتلال أرادتها خداعاً محبوكاً، دون أن تجرؤ أوروبا على الحديث عن خيارات التعامل مع هذه المآلات سوى التمسّك بوعود تلاشت إمكانية تحقيقها.
لا مفاوضات مرتقبة في الأفق المسدود، وثمة حقائق يفرضها الاحتلال كل صباح، وها هي واشنطن تنفض يديها من أي التزامات نحو التسوية أو المفاوضات أو الدولة الفلسطينية، وتفرض برنامجها بالتقسيط بعد أن أحجمت حتى الآن عن عرضه حزمة واحدة باسم "صفقة القرن" أو غيرها.
ما يزيد الموقف تعقيداً غياب القيادة الإسرائيلية التي بوسعها التوجّه إلى "حل سياسي" مفترض مع الجانب الفلسطيني، فحكومات نتنياهو المتعاقبة لم ترغب بذلك وهي تربح تطبيعاً عربياً مجانياً خلال ذلك، كما أنّ تعثّر تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة سيحافظ على الوجهة القائمة، علاوة على أنّ التركيبة السياسية لأي مشهد حكومي أو برلماني يمكن افتراضه في خندق الاحتلال لن يسمح بأي تغيير جوهري.
أمّا حقيبة أوسلو فلا تجود على الفلسطينيين بأي خيارات للتعامل مع هذا الموقف، بما يحرِّضهم على قلب الطاولة على المتلاعبين بمصائرهم، وإنهاء ارتهان السلطة وطبقتها السياسية والأمنية للوضع القائم والالتزامات المغلّظة المترتبة بموجب اتفاق أوسلو. لا ترغب أوروبا برؤية انتفاضة جديدة، فهي معنية بالهدوء المديد تحت كل الظروف، لكنها تدرك أنّ وعودها المزمنة التي تواصل التبشير بها هي الآن وأكثر من أي وقت مضى منفصلة عن الواقع.
حسمت واشنطن الوجهة فقرّرت منذ دخول ترمب البيت الأبيض إهالة التراب على وعود التسوية ومحدداتها، بما في ذلك قرار مجلس الأمن الذي يعارض الاستيطان بوضوح، الذي شجّعته إدارة أوباما في أيامها الأخيرة استباقاً لعهد ترمب الذي أفصح عن توجّهاته التي يترجمها الآن بحذافيرها.
يبقى ثبات أوروبا على موقفها رسالة إيجابية قياساً بالانجراف الأمريكي الأرعن نحو خندق الاحتلال، لكنّ الموقف الأوروبي يكتفي بالفرجة وإظهار العجز ولا يتضمّن "خريطة طريق" مقترحة على الشعب الفلسطيني أو قيادته للتعامل مع هذا الواقع المفروض.
من القسط الإقرار بأنّ أوروبا ضالعة على طريقتها في المآلات الخائبة التي انتهت إليها وعود التسوية، فقد شاركت في رسم الأفق السياسي الوهمي واستدراج القيادة الفلسطينية إلى نفق مظلم تمّ سدّه عليها. لم تجرؤ أوروبا طوال عقود على ممارسة أي ضغط لوقف الاستيطان المستشري على الأرض مثلاً، أو لكبح تشييد جدار الاحتلال في أعماق الضفة.
لعلّ أقصى ما اجترأت أوروبا على اتخاذه في مواجهة تكريس الاحتلال أن أطلقت تصريحات رخوة، وأن توجّهت إلى خطوات جزئية وهامشية مثل وضع إشارات على بعض منتجات المستوطنات، وهو ما أكده حكم محكمة العدل الأوروبية الصادر يوم 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، الذي انطلق من أساس رفض الاعتراف بشرعية هيمنة الاحتلال على الأراضي المحتلة سنة 1967 مع تأكيد أنّ الاستيطان المترتب على هذا الاحتلال مخالف للقانون الدولي. لا استعداد أوروبياً لما هو أكثر من ذلك، فإنّ كانت المستوطنات غير شرعية أساساً يكون الأحرى حظر الاتجار ومنع التبادل والتعاون معها، فمجرد وسم بعض المنتجات لن يُخرجها من الأسواق الأوروبية وإن وقع التضييق عليها نسبياً.
ربّما وجب، أيضاً، التذكير بمتوالية الاعترافات البرلمانية الأوروبية بالدولة الفلسطينية في السنوات 2013 – 2015، فهذه لم تمنع تمكين الاحتلال على الأرض ولم تَحُل دون تقويض فرص الكيان الفلسطيني الموعود.
لم ينتفع الشعب الفلسطيني باعترافات أوروبية بدولة منعدمة في الواقع، علاوة على أنها في معظمها اعترافات برلمانية رمزية. في المقابل، ما زال الجانب الإسرائيلي يحظى بامتيازات واسعة وعلاقات نوعية مع أوروبا تكرِّسها اتفاقات تعاون متعددة المجالات، ولم تفلح المطالبات التي انطلقت في المجتمع المدني الأوروبي بإلغاء هذه الاتفاقات وممارسة ضغوط رادعة على حكومات الاحتلال المتعاقبة.
إنّ الدويّ الذي أحدثته قنبلة بومبيو من شأنها إيقاظ أوروبا والمجتمع الدولي ومن بيدهم القرار الرسمي الفلسطيني أيضاً لاكتشاف الواقع على ما هو عليه. يُدرك الجميع أنّ شرعنة الاستيطان وما يتلازم معها من ضمّ أراضٍ ومواقع استراتيجية في الضفة الغربية وشرق القدس؛ هي بمثابة إعلان عن انقشاع الأوهام.
بيعت وعود سخية للفلسطينيين عبر عقود ثلاثة فانتهت بهم إلى مصيدة لا فكاك لهم منها إن ظلّوا خاضعين لمنطق التسوية ومعايير أوسلو التي كبّلتهم وأطلقت أيدي محتلي بلادهم. ما جرى في النهاية أنّ واشنطن قرّرت "شطب فلسطين من الخريطة"، حسب "لومانيتيه"، لكنّ مخزون البيانات والتصريحات الأوروبية عن المفاوضات ووعود التسوية قد يكفي لتسلية الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ربع قرن آخر.