لطفي العبيدي
كل الحروب التي شنتها إسرائيل من أجل القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم حصار غزة وعزلها، ومحاولة إنهاء المقاومة، وحروبها في لبنان، لم تحقق لها شيئا سوى تعاظم مركب الخوف لدى مستوطنيها.
فلا أمن في شمال فلسطين المحتلة اليوم، والفزع والرعب مشاهد متكررة على جميع الجبهات، مع كل صفارات إنذار. وفي المحصلة جلبت المغامرات العسكرية لإسرائيل الهلع كحالة دائمة، ورسخت عارا إنسانيا على جبين قادتها من العمل والليكود. وهي التي خشيت الجناح السياسي لمنظمة التحرير وغيرها، أكثر من الوجه العسكري للمقاومة في مرحلة ما، على نحو تقويض مساعي السلام في كل مرة بضرب الجناح السلمي السياسي وتشويهه، عبر الضغط العسكري واستفزازات الحرب واختلاق المواجهة، رغبة منها في الحؤول دون بلوغ الجبهة السياسية الفلسطينية، ممثلة في منظمة التحرير، الاعتراف الدولي واسع النطاق، بما يقر بوجاهة المشروع السياسي، وحق تقرير المصير وافتكاك مطلب الدولة المستقلة.
وضمن هذا السياق هناك أدلة على النقيض، فالقوى الغربية الداعمة للكيان الصهيوني في المنطقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، كانت إلى جانب الديمقراطية نظريا، ولكنهم لا يحترمون إرادة الشعوب التي تُصوت للحزب الذي لا يروق لهم. ولهذا قاموا «بتعطيل الديمقراطية» في فلسطين بعد فوز حركة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني، ورفضوا نتائج انتخابات يناير/كانون الثاني 2006 والاعتراف بالحكومة الجديدة، وساهموا عمليا في تصدع الحركة الوطنية الفلسطينية. فبعد أن صرح الجميع بأن العملية الانتخابية حرة وشفافة، حدث التآمر الإسرائيلي الغربي، وانتهى الأمر إلى تقسيم الفلسطينيين، بعد أن اقتربوا من إيقاف التصادمات وتشكيل حكومة وحدة وطنية، واتفق الطرفان على نظام مشاركة السلطة وتسليم المستقلين وظائف الشؤون الخارجية والداخلية والمالية، ولكن ذلك لم يعجب صانعي القرار في واشنطن وتل أبيب، وشجعوا على الانقلاب والصدام، لينتهي الأمر بحكم حركة فتح في الضفة الغربية، مع تنسيق أمني تام، وحكم حركة حماس لقطاع غزة في ظل حصار ظالم ومستمر.
وما يشجع إسرائيل على التمادي في سياسة الاحتلال والاستيطان والعدوان المتكرر هو دعم الولايات المتحدة المطلق، إلى جانب المؤسسات الدولية التي تحابي الكيان الصهيوني المغتصب للأرض، وتلوم المقاومة على إطلاق صواريخ متوسطة المدى، ردا على الاغتيالات، وقصف المدنيين الأبرياء، مثلما يرد في بيانات الاتحاد الأوروبي والخارجية الأمريكية، في مناسبات عدة، ويزيدها تحيزا مواقف الأمانة العامة للأمم المتحدة، التي لا تتجاوز القلق الخجول. وليس مستغربا أن تقر الإدارة الأمريكية بشرعية المستوطنات وقانونيتها، إذ يضيف دونالد ترامب خطوة استجداء أخرى للوبي اليهودي، إلى جانب إعلان القدس، ونقل السفارة، وقرار ضم الجولان. وهو ككل الرؤساء الأمريكيين يتفاعل بحماسة مع القادة الأصوليين الإنجيليين، الذين يمثلون قوة سياسية ضخمة ونجمهم صاعد في الحزب الجمهوري، وتحصد إسرائيل بفعل موالاتهم مكاسب سياسية ضخمة داخل البيت الأبيض، من خلال تحالفها مع اليمين المسيحي الجديد. وهؤلاء استغلوا نبوءات توراتية محرفة لتشريع وجودهم في فلسطين، وأحقيتهم في القدس منذ وقت طويل.
ويصح توقع الباحث اليهودي نورمان فنكلشتاين بأن يصبح الهولوكوست «أكبر جريمة في تاريخ البشرية»، على نحو أن استثارته «خدعة تهدف إلى تحريم كل انتقاد ضد اليهود»، فعقيدة المحرقة الراسخة بإضفائها البراءة التامة على اليهود، تعطي المناعة لإسرائيل ويهود أمريكا ضد النقد المشروع، وقد استغلت التنظيمات اليهودية هولوكوست النازي، لصد انتقاد إسرائيل وسياساتها، التي لا يمكن أن يكون هناك «دفاع أخلاقي عنها».
الإسرائيليون يندفعون لفرض سيادتهم على المدينة التي يقدسها مليار مسيحي وأكثر من مليار مسلم وحوالي 14 مليون يهودي ويدافعون عن ادعاءاتهم بتزوير الحقائق التاريخية. ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليست مهمة اقتصرت على ترامب، بل هي توصيات كثيرين منذ عقود من الذين أطلوا رافعين نبوءات توراتية وإنجيلية، في محاولة لإسباغ معتقدات دينية على الأطماع الجيوسياسية، بشكل يجعل الحلف القائم بين الولايات المتحدة وإسرائيل حلفا عسكريا سياسيا وعقائديا دينيا.
وعلى هذا الأساس يفعلون ما يريدون، ومقاومة الاحتلال الصهيوني هي جريمة وارهاب في نظرهم، لأنها فعل شيطاني يأتي من معسكر الشر، وضد إرادة الرب الذي أعطاهم «الأرض الموعودة». صهاينة الغرب الأمريكي لا يمكن أن يرفعوا ظلم صهاينة الشرق عن فلسطين، وعن الشرق الأوسط عامة، ومختل من يراهن مجددا على الوساطة الأمريكية، فهم في خندق واحد، وما لم يُشف الجرح الفلسطيني الدامي فسوف يبقى السبب الرئيس لعدم الاستقرار في المنطقة، والدافع لخلق التوترات المتتابعة، بناء على رغبة إسرائيل في تشتيت القضية الفلسطينية وتصفيتها نهائيا، مستغلة في ذلك الخضوع العربي وزمن التبشير بالتطبيع.
كاتب تونسي