| د. يوسف جاد الحق
درجت أميركا على أن تخرج على العالم بين يوم وآخر، بمصطلحات ومبتكرات ومنحوتات كلامية تعني في ظاهرها شيئاً، وتخفي بين طياتها شيئاً، وقلما ينكشف ذلك الشيء الخفي لعامة الناس وإنما يكتشفه ويدرك أبعاده ومراميه الحريصون على الوصول إلى الأهداف التي يرمي إليها ذلك المصطلح، في مضمونه ومحتواه، قبل أن يغدو وكأنه بدهية مسلمة، نظراً لتكراره على مدى الساعات، والإلحاح على تعميمه إعلامياً لكي يحقق المطلوب من ورائه، ومن هذا القبيل قولهم في أميركا، ومنذ قيام الكيان الصهيوني على أرضنا بأن «أمن إسرائيل من أمن أميركا نفسها»!
الحقيقة الظاهرة لهذا المصطلح هي مفهوم «الأمن» المتعارف عليه، في العادة، بين الدول ولكنه هنا وفي باطنه يعني أن وجود إسرائيل مسؤولية أميركية تستوجب حمايتها من أي خطر، تماماً كما هو الحال حيال أمن أميركا نفسها وجودياً، بنفس الدرجة والقوة.
هي إذن رسالة موجهة لمن يهمه الأمر من الفلسطينيين والعرب أولاً، ولسائر العالم ثانياً تعني بأنه غير مسموح المساس بأمن إسرائيل وأحقيتها في البقاء «دولة» على أرض فلسطين التي اغتصبتها، ولا يعني أميركا، في هذه الحال مصير أبناء شعب فلسطين، وما قد يحل بهم نتيجة لهذا الوجود من أخطار ومظالم، ولو كان ذلك على أيدي الإسرائيليين بالذات، كيف لا والوجود الأميركي القائم اليوم قد تم بناؤه على المبدأ نفسه، وكان سكان أميركا الأصليين ضحايا هذا الوجود، في عمليات إبادة جماعية مشهودة يعرفها العالم كله.
غير أننا، وبسبب من تغير الزمن بين تاريخ أميركا القديم وبين زمننا الراهن، وبين تسويغ الأميركيين لما حصل هناك فيما مضى، وبين أميركا الدولة الكبيرة اليوم، راعية العدل والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفق دعاواها ومزاعمها، يحق لنا أن نخاطبها بمنطقها هذا ذاته بتساؤل نوجهه إليها: من أعطاكم الحق في إيقاع هذا الظلم على الفلسطينيين، وهذا التحيز المشين لليهودية العالمية، وهل «إنسانهم» غير «إنساننا»؟!
ألا يتنافى موقفكم هذا مع أبسط حقوق الإنسان في أرضه ووطنه وفق ميثاق الأمم المتحدة، الذي كنتم في مقدمة واضعيه في المقر المؤقت للأمم المتحدة في «ليك سكسس» قبل انتقال المنظمة إلى مقرها الحالي في نيويورك، عقب الحرب العالمية الثانية التي خسرت البشرية جراءها ما يربو على خمسين مليوناً من البشر، من أجل أن يعم العدل والإخاء الإنساني والسلام النظيف والمساواة سائر البشر بعد ذلك؟
ترى كم قتل، وكم شرد، وكم عذب حتى الموت من الفلسطينيين والعرب منذ ذلك التاريخ، وهو نفسه تاريخ إقامة الكيان الصهيوني، وحتى يومنا هذا؟ وهل جلُّ سعيكم لنيل رضا اللوبي اليهودي العالمي وأخطبوط مؤسساته الماسونية «بني ريث» و«الليونز»، وغيرها، ينبغي علينا نحن، الذين لا نمت لهذا كله بصلة، دفع ثمنه بالإكراه والإرهاب وسائر أساليبكم هذه التي برعتم في إتقانها وتعميمها والتعمية عليها؟
ترى هل فكر ساسة العرب، الضالعين مع العدو، المهرولين لبناء علاقات محرمة معه، في معنى حرص أميركا على التماهي مع الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية؟ هل فكر أولئك في أن هذا الوجود لم يكن سوى جسرٍ مرحلي لتحقيق الأطماع الصهيونية في التوسع على حساب أراضٍ عربية تقع ما بين الخليج والمحيط، لكي تغدو المنطقة كلها ذات يوم ملك أيمانهم؟ وليس ما يجري على الأرض العربية تحت مسمى «الربيع العربي» غير تمهيد للوصول إلى المرمى النهائي الذي خططوا له ودبروا وتآمروا منذ عقود بعيدة، إن لم نقل منذ قرون.
«الربيع العربي» هذا الذي جاء به أحد أفاقيهم المدعو برنار هنري ليفي، كان الهدف من ورائه دماراً شاملاً في أرجاء المنطقة، بل الإقليم، عرباً ومسلمين، فكيانهم لا يمكنه البقاء والاستمرار في الوجود ما لم يكن ما حوله مقسماً مجزَّأً تتناوبه الخصومات والحروب والمذابح تحت عناوين مضللة تشوه التاريخ وتمزق الجغرافيا وتعمم خراب القيم والمبادئ تماماً كتخريبها للبنيان والعمران.
من يشكك في شيء مما ذهبنا إليه، ليس عليه إلا أن يعود إلى بروتوكولات حكمائهم، وإلى تلمودهم، وإلى شعارهم على واجهة كنيسهم في قدسنا، حيث ثالث الحرمين وكنائس المهد والقيامة وغيرها في القدس وبيت لحم والناصرة.
صفوة القول: على الرغم من هذا كله فإننا على يقين بأن هنالك من أبناء أمتنا العربية من يعرف هذه الحقائق جيداً، ومن ثم يتعامل معها على ضوء معرفته وفق معطيات الساعة، وتبعاً لمقتضى كل حالة أو ظرف بما يتلاءم معه ويستوجبه.
هؤلاء هم من تنعقد عليهم الآمال في إفشال المخططات التآمرية الصهيو أميركية، وهؤلاء هم من تبنوا نهج المقاومة سبيلاً أوحد لتحرير فلسطين كاملة، من البحر إلى النهر، وإحراز النصر المبين في نهاية المطاف.
لن ينجي الكيان الصهيوني عندما تقع الواقعة الكبرى، إعلان أميركا الهادئ أو حتى صراخها المدوي بأن أمن إسرائيل من أمنها، فأميركا هذه ليست، كما يتوهم المتخاذلون، على كل شيء قديرة، لاسيما في هذا الزمن الذي بزغت فيه قوى جديدة، تعادل أميركا أو تفوقها قوة ومكانة عالمية.