يتوجه الناخبون في إسرائيل بعد أيام قليلة إلى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في الكنيست، في نهاية حملة انتخابية أقل ما يقال عنها إنها مختلفة عن كل سابقاتها، أما أسباب ذلك فهي كثيرة، ربما كان أهمها التأثير الحاسم لهذه الانتخابات، ليس فقط على مستقبل نتنياهو السياسي، وإنما على مصيره الشخصي أيضا.
بنيامين نتنياهو ليس شخصية عادية يمكن مقارنتها بأي من الشخصيات التي تولت قيادة الحكومة الإسرائيلية من قبل، فرغم ضحالة ما قدمه من خدمات حقيقية لدولة إسرائيل، التي ولد فيها بعد إعلان قيامها، إلا أنه استطاع أن يشق لنفسه طريقا في مسيرتها السياسية، ليصبح واحدا من أهم الرموز التي تعكس تطلعات اليمين المتطرف لجيل ما بعد الآباء المؤسسين. فقد استطاع في انتخابات 1996 أن يهزم شمعون بيريز، أحد رموز جيل الآباء المؤسسين للدولة الإسرائيلية، ولم يكن عمره قد تجاوز 47 عاما في ذلك الوقت، ليصبح أصغر رئيس للوزراء في تاريخ إسرائيل، ورغم خسارته لموقعه كرئيس للحكومة طوال السنوات العشر التالية، إلا أنه استطاع ليس فقط أن يستعيد هذا الموقع عام 2009، ولكن أن يظل محتفظا به منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا، مسجلا بذلك رقما قياسيا في عدد السنوات التي شغل فيها منصب رئيس الحكومة، ومتفوقا على بن غوريون نفسه، مؤسس الدولة الصهيونية، لذا يبدو أن نتنياهو يعيش حالة نفسية ومزاجية خاصة تولد لديه إحساسا متزايدا بتضخم الذات، يتوقع أن يصل إلى ذروته، متجاوزا حد الانفلات، إذا ما فاز حزبه في الانتخابات المقبلة، وحصل على ما يكفي من المقاعد تمكنه من تشكيل حكومة تحظى بأغلبية مريحة داخل الكنيست.
غير أن نتنياهو يواجه في الوقت نفسه مأزقا شخصيا وأخلاقيا لا يعرف كيف يستطيع التغلب عليه، بعد أن وجهت إليه اتهامات خطيرة بالفساد ووصلت التحقيقات بشأن هذه الاتهامات إلى مرحلة متقدمة، تهدد باحتمال تقديمه للمحاكمة وتوقيع عقوبة عليه قد تصل إلى حد السجن لعدة سنوات، إذا ثبتت إدانته، ما جعل من الفوز في الانتخابات المقبلة مسألة حياة أو موت بالنسبة له. فالفوز في هذه الانتخابات بالذات يعني بالنسبة له أكثر من مجرد قيادة حكومة يمكن من خلالها توجيه بوصلة السياسة العامة للدولة، بالطريقة التي يريدها في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ إسرائيل، لأنه قد يمكنه في الوقت نفسه من الإفلات من المأزق الذي يواجهه، أو هكذا يتصور، خاصة إذا حصل على أغلبية مريحة تمكنه من تمرير قانون يعفيه من المساءلة، أو يضفي عليه حصانة قضائية أثناء فترة تقلده لمنصبه الرسمي على الأقل. وليس من المستبعد أبدا، في حال نجاحه في تحقيق ما يخطط له، أن تصيب نتنياهو تحولات نفسية وذهنية خطيرة، قد تدفع به للاعتقاد حقا بأنه الرجل الذي اختارته العناية الإلهية ليقوم ليس فقط بضم غور الأردن والكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، وإنما أيضا بوضع اللبنة الأخيرة في صرح أقصى طموحات المشروع الصهيوني جنونا، وبالتالي يتولى بنفسه اتخاذ القرار الأخطر بهدم المسجد الأقصى، والشروع في بناء الهيكل على أنقاضه، كرمز لقيام «دولة إسرائيل التوراتية».
في سياق كهذا، يبدو واضحا أن نتائج الانتخابات المقبلة ستفضي بنتنياهو إما إلى رفعه إلى قمة هرم السلطة من جديد، أو الهبوط به إلى قاع الهاوية، بعد الزج به داخل أقبية سجن قد يقضي فيه ما تبقى من عمره. غير أن البعض يعتقد أن نتنياهو ليس من النوع الذي يمكن أن يستسلم لمثل هذا المصير المظلم أبدا، وبالتالي فلن يتردد في اللجوء إلى كل ما يستطيع من حيل مشروعة أو غير مشروعة لضمان فوزه في تلك الانتخابات، حتى لو اضطر إلى هدم المعبد على من فيه. من بين الحيل التي تفتق عنها ذهن نتنياهو مؤخرا محاولته سن تشريع، عرف إعلاميا باسم «قانون الكاميرات»، يسمح لمندوبي الأحزاب المتنافسة بتثبيت كاميرات في المقار الانتخابية، خاصة في المناطق ذات الأغلبية العربية، بدعوى مراقبة سير العملية الانتخابية، وكشف محاولات التزوير. غير أن هذا المشروع، والذي وافقت عليه حكومة نتنياهو بالإجماع وأحالته بالفعل إلى الكنيست، قوبل بانتقادات حادة بسبب ما ينطوي عليه من اتهامات ضمنية تشكك في النزاهة الشخصية للمواطنين العرب، وبالتالي من تمييز عنصري واضح ضدهم. ولم يخف على أحد أن الهدف الحقيقي من هذا المشروع كان تخويف الناخبين العرب، أملا في الحد من مشاركتهم في الانتخابات المقبلة، حتى لا يحصل نوابهم على عدد كاف من المقاعد لعرقلة جهود تشكيل حكومة برئاسة نتنياهو، مثلما حدث في انتخابات مايو الماضي. ولأن اللجنة العامة للكنيست رفضت الموافقة على هذا المشروع، وبالتالي سقط بالفعل، قبل أن يطرح للمناقشة والتصويت في الكنيست، فقد رأى البعض في ما حدث هزيمة مبكرة لنتنياهو، ودليلا على أن الطريق أمامه ليس معبدا أو مفروشا بالورود. ومع ذلك، ما تزال بعض أوساط النخب الإسرائيلية المؤثرة تعتقد أنه لن يستسلم للهزيمة بسهوله، وأنه يعد خططا لإثارة الفوضى والتشكيك في نتائج الانتخابات الإسرائيلية إذا ما أسفرت عن هزيمته. فقد أشار بن كاسبيت، وهو صحافي ومذيع ومقدم برامج إسرائيلي وثيق الصلة بالمؤسسات الرسمية، في مقال له نشر مؤخرا في موقع «المونيتور»، إلى أن نتنياهو يخطط منذ عامين لافتعال أزمة سياسية وقانونية غير مسبوقة في إسرائيل للهروب من الاستحقاق القضائي الذي ينتظره، ولن يتردد في رفض نتائج الانتخابات إن جاءت لغير صالحه، بدعوى أن تزويرا كثيفا شابها، وهو ما يفسر إثارته لموضوع «الكاميرات»، بل إن بن كاسبيت ذهب إلى حد اتهام نتنياهو بأنه بدأ بالفعل في تمهيد الأرضية السياسية التي تسمح بإطلاق سيناريو الفوضى، عبر عملية تخريب ممنهجة تستهدف توجيه انتقادات حادة لمؤسسات الدولة الرسمية، بدأها بالشرطة ومحققيها ومفتشها العام، ثم استدار إلى النيابة العامة، فالمحكمة العليا، وصولا إلى رئيس لجنة الانتخابات المركزية، وانتهاء بالمستشار القضائي للحكومة الذي عارض مشروع «قانون الكاميرات».
نتائج الانتخابات المقبلة ستفضي بنتنياهو إما إلى قمة هرم السلطة من جديد، أو الهبوط به إلى قاع الهاوية
وأيا كان الأمر، فمن المتوقع أن تواجه المكلف من جانب رئيس الدولة بتشكيل حكومة إسرائيل المقبلة، سواء كان نتنياهو أو غيره، عقبات كثيرة قد تحول دون تمكينه من تشكيلها خلال الفترة القانونية المحددة، خاصة أن البعض يتوقع أن يشكل اليمين المتطرف رمانة الميزان في أي حكومة مقبلة، لا يستطيع قيادتها بنفسه مباشرة. وهذا هو التحدي الكبير الذي ستواجهه اي حكومة إسرائيلية مقبلة، خاصة إذا كانت في عجلة من أمرها لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الوقت المحدود المتاح أمام ترامب، ودفعه لتمرير «صفقة القرن» قبل أن تنشغل إدارته بحملة الانتخابات الرئاسية، التي ستنطلق في منتصف يناير المقبل ثم ستتصاعد تدريجيا إلى أن تصل ذروة احتدامها مع اقتراب الموعد المحدد لإجرائها في نوفمبر من العام المقبل.
قد يرى البعض أن إعلان الجانب السياسي من «صفقة القرن» لم تعد له قيمة تذكر من الناحية العملية، خاصة أنه يجري حاليا تنفيذ العديد من جوانب هذه الصفقة على أرض الواقع منذ فترة، بسلاسة تامة وبتعاون وثيق بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية. فقد سبق للإدارة الأمريكية الحالية أن اعترفت بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وقامت بنقل مقر السفارة الأمريكية إليها بالفعل، وبضم إسرائيل للجولان السورية، والأرجح أنها لن تتردد في الاعتراف بضم إسرائيل لغور الأردن والتكتلات الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية، إن أقدم نتنياهو على هذه الخطوة عقب فوزه في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة. غير أن هذه الإجراءات، على خطورتها، تظل في النهاية أحادية الجانب، وبالتالي غير قابلة لاعتراف المجتمع الدولي بها، ما لم تتمكن الولايات المتحدة من إعلان «الصفقة» رسميا وتحويلها إلى برنامج عمل تقبل به الدول العربية الحليفة لها، طوعا أو كرها، وتنخرط بنفسها في تحويله إلى واقع على الأرض، وهو هدف ما يزال بعيد المنال، خاصة في ظل استمرار وجود وتزايد قوة محور المقاومة في المنطقة، الذي تدرك إسرائيل أنه يتعين إلحاق الهزيمة به قبل أن يصبح في مقدورها تحقيق حلم «إسرائيل التوراتية».
يراهن ترامب على نتنياهو بالقوة نفسها التي يراهن بها نتنياهو على ترامب. فنتنياهو يدرك استحالة استكمال مقومات إسرائيل «التوراتية» بدون وجود ترامب على رأس الإدارة الأمريكية، ومن ثم فسيحاول قدر المستطاع العمل على تحقيق أكبر قدر ممكن من أهدافه قبل انتهاء الولاية الأولى لترامب، والسعي لحشد طاقة الحركة الصهيونية كلها للوقوف وراء ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة، لتمكينه من الحصول على ولاية ثانية. في الوقت نفسه، يدرك ترامب أنه لا أمل له في ولاية ثانية بدون ضمان دعم وتأييد الحركة الصهيونية، التي يتوقع أن تقوم بوضع وتعبئة كافة إمكاناتها المادية والإعلامية لخدمة حملته الانتخابية، الأمر الذي يدفعه بدوره لتقديم كل ما يستطيع لإنجاح نتنياهو. ومن المفارقات أن كلا الرجلين يواجه أزمة شخصية وأخلاقية قد تهوي بهما معا إلى مزبلة التاريخ، بدلا من رفعهما إلى قمة هرم السلطة. يبدو أن الأشهر الثلاثة المقبلة سيكون لها تأثير حاسم في مسار المنطقة.