Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

استحلفكم بالله أن اقضي الايام المتبقية من حياتي بين أحضان والديّ

بقلم: عيسى قراقع

عضو المجلس التنشريعي، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق

ليس بعد، لازلت حياً أصارع الموت، الأمراض الخبيثة تنتشر وتتوحش في جسدي، كل يوم ارتدي ثوب الشهيد، أسابق الموت وانتظر كل صباح، ليس بعد، ربما يمر عيد الاضحى دون ضحية أخرى في السجون، ربما لا أزال على حافة الحياة لأقول لكم كل عام وانتم بخير.

أنا الأسير المريض سامي أبو دياك، سكان محافظة جنين، محكوم بالسجن ثلاثة مؤبدات وثلاثين عاماً، ومعتقل منذ عام 2002، أقبع في ما يسمى مستشفى الرملة الاسرائيلي مع 15 اسيراً مريضا، أعاني من مرض السرطان بالامعاء منذ ثلاث سنوات، المرض يتصاعد بسبب عدم وجود عناية طبية لازمة واهمال متعمد تعرضت له في المستشفيات الاسرائيلية ادى الى تلوث في الدماء ووصولي الى حافة الهاوية، وكل يوم اشعر ان الموت قد جاء وقفز الى جسدي واحتضني، وكل ساعه احس بدبيب الموت بداخلي واني سأرحل دون وداع.

لقد وجهت الكثير من الرسائل والمناشدات، وكشفت عن الحرب الصامتة الخطيرة التي تجري على أجساد المعتقلين، كشفت عن اقنعة اطباء يلبسون ثياب جلادين، عن سياسة ممنهجة ومتعمدة حولت السجون الى مقابر وامكنة لزراعة الامراض القاتلة في اجساد المعتقلين، صرخت بكل شهقات الموت الرابضة في اعماقي من اجل التحرك والعمل لانقاذ الاسرى المرضى الذين يقتلوا رويداً رويداّ في هدوء وصمت العالمين.

لست وحدي، الموت يرقص في هذا المشفى كل حين، الاسير بسام السايح يصارع مرض السرطان، ويعد الساعات، وعثمان ابو خرج بدأ يتأمل اللحظات القادمة من الحياة، كل ما حولي صراخ واشتباك مع الاوجاع، المشلولون والمعاقون والمجروحون والمنهكون والمدمرة اجسادهم بالرصاص، منصور موقدة وخالد الشاويش ومراد ابو معاليق وعلاء الهمص وفواز بعارة واشرف ابو الهوى، ومحمد براش ومعتصم رداد ويسرى المصري واسراء الجعابيص وناهض الاقرع، محمد ابو خضر وعز الدين كراجة ومصطفى دراغمة وانس موسى واحمد ابو خضر، والاسماء كثيرة ككثرة الامراض في هذه السجون، الهواء موت، والجدران لها مخالب وافواه جائعة، الليل كثيف ولا قمر يطل من السماء.

انا سامي أبو دياك استحلفكم بالله ان تقوموا بالعمل بشكل جدي على اطلاق سراحي، فأنا على مشارف الموت، واريد ان اقضي الايام المتبقية من حياتي بين احضان والدي، دعوني اتوفى في احضان والدي، لا اريد الذهاب اليهم داخل كيس اسود، اتمنى ان تلقى صرختي آذان صاغية لكل من له ضمير حي.

في كل عام يسقط شهداء في صفوفنا، اعدادنا تنقص، رحل الشهيدين فارس بارود وصابر طقاطقة هذا العام، وودعنا الكثير من زملائنا، عيوننا تحدق في بعضها البعض، كل واحد فينا يعتقد انها النظرات الاخيرة، نظرات الفراق، نظرات الميتين الى الميتين، لا احد كسر حجارة هذا القبر، لا احد يطالب بنا كموتى ولا كأحياء، حتى المؤسسات الدولية والصحية وبكل ما ملكت من تقارير ومواثق فقد شلت فعاليتها و اهميتها على ابواب سجون الاحتلال.

المرض وعدم العناية بالمرضى هي حرب اخطر من صفقة القرن والمؤامرات السياسية على المشروع الوطني الفلسطيني، ان ترك الاسرى المرضى تفترسهم الامراض العديدة هي هجوم على انسان الثورة وعلى رموز الحركة الوطنية، هي الاعدامات المتوارية خلف القضبان، فمن يدق علينا الابواب؟ من يحملنا من الموت الى الحياة ولو مؤقتاً؟ من يمسك بعكازاتنا ويقودنا على عرباتنا المتحركة؟ من يعطينا الدواء في الاوردة؟ من يساعدنا على التبول وزرع الاكياس في بطوننا؟ من ينقذنا من الكوابيس والاشباح لننام قليلاً؟ من يسند ظهورنا في الذهاب الى الحمام او الاغتسال؟ من يعيدنا الى جمال قلوبنا وافكارنا وذكرياتنا السابقة؟ من ينقذنا من الرعشات والرجفات والحبوب المخدرة؟

كل عام وانتم بخير يا ابناء شعبي العظيم، هي كلمات أخيرة، رعشات اخيرة، همسات اخيرة، كنت اتمنى ان القاكم في فرح الحرية وليس في وجوم الجنازات، كنت مشتاقاً لاعانق كل طفل وبنت وشجرة، كنت اتمنى ان اصلي في القدس وفي ساحات الاقصى واغني واقذف حجراً وارفع علماً، اكون ككل البشر على ارض وطني واقفا واقفا وليس ميتا ممددا في كفن.

 

انا الأسير سامي أبو دياك الناطق باسم الشهداء القادمين من سجون الاحتلال، ادعوا الى قيامة، ادعوا الى غضب، الا يسمع الناس ما يجري من اعتداءات وحشية في عوفر والنقب؟ الا يسمع الناس عن اعتقال الاطفال اليومي وتدمير الطفولة في اقبية التحقيق على ايدي وحوش اسرائيلية؟ الا يسمع الناس هذا الاستهتار العلني بكل القيم والاخلاق والمواثيق الدولية بحقوق الاسرى والانسان؟ من يأتي ليسمع ويرى؟ ليكتب عنا قبل الغياب، ليسجل حضورنا الانساني باسماءنا وملامحنا قبل التلاشي تحت التراب.

انا الأسير سامي أبو دياك الناطق من زمن المؤبدات والامراض والزنازين والظلمات، وحدنا نواجه الموت، وحدنا نحاول ان نسافر في خيالات الحياة، الحياة صارت خيالاً، الحياة صارت بعيدة، الحياة صارت استعارة وتأويل، كيف هي الحياة؟ لا يوجد حولنا سوى قتلة، سجانون وجلادون وسكاكين ومشرحة، لسنا تقريراً طبياً، لسنا عابرين في حوادث عابرة، نحن اسرى الشعب الفلسطيني، نحن بشر، جلودنا هي جلدة الارض، ملوحة دمنا هي ملوحة الارض، فمن ينقذنا لينقذ الارض، ارض الانسان؟

انا الأسير الشهيد الحي سامي أبو دياك، الان استطيع الكتابه والصراخ، بعد قليل لن استطيع، ربما هو النداء الاخير لاقول للجميع: الوطن هو قضية الانسان، ومن يترك الانسان يموت امام ناظريه فقد قتل الوطن، هذا الوطن يتألم فينا، لا اجازات عندنا، لا قيلولة ولا رفاهية ولا مشاريع خاصة، كل همنا ان نتجاوز حاجز الموت هنا وهناك، ان نخرج من العزل والاختناق والحشر المخيف، ان نرفع رايتنا الحرة فوق ارض اجسامنا دون معازل وابراج واسلاك شائكة، ان نكون كما ارادت الحياة ان نكون، ان نتحرر من المؤبدات والسنوات القاسيات، انها لفجيعة ان تتركوا الوطن في أجسادنا يذوب ويختفي تحت جنازير الدبابات والمستوطنات والسجانين ودولة قراصنة وعصابات.

انا الاسير سامي ابو دياك كل عام وانتم بخير، سأزور معكم كل العائلات، الاصدقاء والاحباب صباح العيد، سأقرأ الفاتحة على ضريح الشهداء في مخيم جنين وقباطية، سأزرع معكم شجرة زيتون في أرض مصادرة، وأبني بيدي طوب البيوت المهدومة في صور باهر، سأكون معكم حيا في الأعراس وفي المواجهات وفي الاحتفالات وفي المظاهرة.

الأسير المريض سامي أبو دياك يردد في الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش :

يا أصدقاء الراحل المريض..

لا تسألوا متى يعود..

لا تسألوا كثيرا..

بل اسألوا متى يستيقظ الرجال.

- عن صحيفة القدس المحلية