ماجد الشيخ
مع صعود المد اليميني الشعبوي المتطرّف، والذي بلغ ذروته في الولايات المتحدة بفوز الجمهوري دونالد ترامب ودخوله البيت الأبيض، وبدء عهد جديد من حكم اليمين الشعبوي المتطرف في العالم الغربي المؤيد لإسرائيل، بدأ يمين هذه الأخيرة ومؤسسته الكولونيالية الحاكمة يعد العدة لرسم خريطة طريق التسوية النهائية للقضية الفلسطينية، لجهة جلب أنظار دول العالم الغربي وغيرها من دول مؤثرة وغير مؤثرة، نحو ما ينبغي اتخاذه من خطواتٍ لتصفية المسألة الفلسطينية، بما يضمن التخلص منها، أو على الأقل وقف الاهتمام بها وإزاحتها من جداول أعمال الحكومات المحلية الإقليمية والمنظمات الدولية؛ عبر تغيير مفاهيم الصراع والانقلاب عليها، وتثبيت أمر واقع جديد، ينسجم مع ما لجأت إليه إدارة ترامب من منح كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي والتسليم بمطالبه، وفق رؤيةٍ توراتيةٍ ولاهوتية، يتوافق عليها يمين التطرّف والعنصرية والشعبوية عبر العالم، وفي محيط إقليمي خاضع، بات يذهب بعيدا في التخلي عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وتأييد قضيته وحقوقه الوطنية، إن لم نقل إظهار عداء مكشوف لذاك الشعب وقضيته العادلة وحقوقه الوطنية على امتداد وطنه التاريخي.
يتم هذا كله وفق خطة ممنهجة، تسعى إلى استبدال أسس الصراع على فلسطين، كما جرى التعارف عليها طوال قرن، باتجاه فرض "مفاهيم جديدة للصراع" تخرجه من دائرة الوطني والمقدس، نحو مهانة صفقة القرن وصفعاتها المؤذية، إن لم نقل المدمرة، ومخططاتها التهويدية التي لا تبقي ولا تذر، ولا تحفظ أي أثر للرواية الفلسطينية الأكثر واقعية، وهي التي حفظت الأثر التاريخي الأهم، لوطن تاريخي لم يزل شاهدا على أصوله وأصول مواطنيه على مر الأزمان.
منذ صعود الإدارة الترامبية، ومحاولات فرض مفاهيم جديدة للصراع، يتواكب انقلاب المواقف الأميركية التي سادت، حتى عشية دخول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، ومضاعفة
"معركة كسر عظم لاستكمال عملية تغيير مفاهيم الصراع، وسلب الفلسطينيين حقهم المقدس" انسجامها وتناغمها مع المواقف اليمينية الإسرائيلية الليكودية المتشدّدة، بل والمزايدة عليها، واقتحام كل المحرّمات التي لم تجرؤ أي إدارة على مقاربتها أو تبنّيها، ومن ذلك قرارات الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الكولونيالي، والاعتراف بسيادة احتلالية على الجولان العربي السوري، ومنح الشرعية الكاملة للمستوطنات، كامل المستوطنات، كونها شرعية وإقحامها في المشروع التهويدي على كامل أراضي الضفة الغربية، وبما يضع حدا نهائيا لأي إمكانية لسيادة فلسطينية على أي جزء من أراضي الضفة، وقطع الطريق على ما سمي "حل الدولتين"، وبدء الحديث ولو مواربة عن حل الدولة الواحدة (الإسرائيلية) على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وذلك في تناقض كامل مع مرجعيات القانون الدولي والشرعية الدولية وقراراتها، وبما يقود إلى تغييراتٍ جذريةٍ حادّة في الرأي العام العالمي، وفي وضع إقليمي هش يفتقد صلابة المواقف الداعمة لقضية الفلسطينيين الوطنية، في ظل تسرب مواقف جديدة لاوطنية عديدة في تناقضٍ مع المواقف العربية القديمة، حيث يجري التنكّر لها وتبنّي الرواية الصهيونية علنا، وإخراج الفلسطينيين في تجن وانتقائية من حقيقة وواقعية روح هويتهم الإنسانية العربية، وتجاهل كامل حقوقهم الوطنية.
وفي وقاحةٍ منقطعة النظير، لجأ السفير الأميركي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، ومرافقين له إلى استخدام المعاول، في مهمة بدء هدم جدار المسجد الأقصى تحت الأرض، وتكرار تصريحات له بشأن تشريع المستوطنات، إلى أن بدأ أخيرا، وضمن استعمال مصطلحات جديدة تستجيب لفرض مفاهيم جديدة للصراع، باستعمال مصطلح "الأحياء" أو "المدن"، وفض الاشتباك مع "حل الدولتين"، والبتّ نهائيا بأن "صفقة القرن" تتناقض تماما مع كل مفاهيم التسوية والتفاوض، واستبدال ذلك كله بسياسات فرض قسرية وإخضاعية، لا تستوجب اللجوء إلى أيٍّ من أشكال التفاوض، أو الاتفاق مع الفلسطينيين والعرب.
ولطالما سعى المحتلون الإسرائيليون إلى تبييض صفحة الصهيونية، ومن يؤيدها من قوى المسيحية الصهيونية التوراتية، ومن والاها ويواليها من لوبياتٍ غربية وشرقية؛ وأخيرا خليط من حكومات ودول، أسفرت عن مواقف سعت وتسعى إلى الاعتراف بكل ما أحدثه الاحتلال فوق الأرض الفلسطينية من تغييراتٍ كولونيالية، أضحت هي الوقائع الجديدة، بما تعكسه من تزييف وصوغ حقائق لم تجد، منذ البداية، من يتبنّاها سوى أصحاب الرواية الصهيونية، وها هم يعمّمونها اليوم بزعامة يمين شعبوي متطرّف صعد مع صعود ترامب، وصادق على كل مواقفه، وهي تعمل اليوم، وقبل تنفيذ خطة صفقة القرن لتصفية القضية الوطنية الفلسطينية، على محاولة تغيير المصطلحات وتعبئة رأي عام دولي، وتغيير اتجاهاته بما يضمن استنباط وتنميط وفرض مفاهيم جديدة للصراع، وإخراجه من إطار الرواية الفلسطينية الأكثر واقعية، وإعادة توجيهها نحو أكثر الروايات التوراتية القديمة، والصهيونية المعاصرة اللاتاريخية، الأكثر زيفا وأدلجة وخداعا.
ولهذا لم يكن غريبا على شعبويي "السلطة العالمية" من أمثال ترامب، وصهره جاريد كوشنر، ومبعوثه إلى المنطقة جيسون غرينبلات، أو سفيره إلى كيان الاحتلال الاستيطاني ديفيد
"سعي نحو تصفية القضية الفلسطينية أو تخفيف الاهتمام بها على الأقل وإزاحتها من جدول اهتمام الفاعلين الدوليين والإقليميين" فريدمان، وهم يعملون على "إنجاز المهمة": تصفية الحق الإنساني والحقوق الوطنية لشعب الوطن الفلسطيني، ليس داخل هذا الوطن، بل واللحاق بلاجئيه إلى مواطن في الشتات، من قبيل ما يجري اليوم في لبنان من معركة محاولة تصفية حق الفلسطيني في العيش بكرامة، وسلب وعدم احترام حقه في العمل، وصيانة حقوقه التي شرعت وجودها الأمم المتحدة ووكالاتها الدولية، في مقدمة فعلية، لن تقود مع الأيام سوى إلى استكمال مهمة تصفية حق العودة، عبر تصفية وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) ومعها كامل حقوق الفلسطينيين في وطنهم، وفي أماكن لجوئهم الأقرب إلى الوطن.
هي معركة كسر عظم لاستكمال عملية تغيير مفاهيم الصراع، وسلب الفلسطينيين حقهم المقدس في الاحتفاظ بما ينبغي أن يكون رائدهم، ولما ينبغي أن يشكل عنوان حركة تحرّرهم الوطنية وجوهرها، حتى نيل أهدافها في العودة وتقرير المصير، وبدء بناء الاستقلال الوطني فوق تراب الوطن التاريخي الفلسطيني، وبشهادة الأمم المتحدة ومؤسسات دولية وإقليمية أخرى، وإلا فإن ما يجري اليوم، خصوصا في لبنان وعلى الصعيد الإقليمي، محاولة استباقية، وقبل البدء في تنفيذ مخطط الصفقة، وذلك على قاعدة تهيئة الأرض لتغيير مفاهيم صراع وطني يستحيل تغيير قوانينه، طالما بقي الفلسطيني يشمخ بحقه الإنساني، كما يتمسّك بحقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف.
لقد ذهبت الوقاحة بغرينبلات، كما ببعض القوى الإقليمية، وعديد من سلطويي الحكومات العربية، وفاشيين من شعبويي التيارات اليمينية اللبنانية والعربية، أفرادا وجماعات، إلى المصادقة فعليا على اعتبار أن إسرائيل "ضحية في نزاعها مع الفلسطينيين"، وفق ما نقلت عنه شبكة بي بي إس الإخبارية الأميركية، "وليست طرفا يتحمل المسؤولية، ومنذ تأسيسها تعرضت لهجمات إرهابية".
هذا هو مضمون وجوهر ما يجري في العالم اليوم من مسلسل صفقات وصفعات، من دون أن تذهب القيادة الفلسطينية نحو ما ينبغي أن تقوم به من تجييش ودفاع مستميتين، عن حقيقة الرواية الفلسطينية وحركة تحرر الشعب الفلسطيني الوطنية وجوهرهما ومضمونهما، وهما يتعرّضان لاعتداءات موصومة وموصوفة، من بعض "الأشقاء" وتواطؤاتهم المكشوفة مع عدو كولونيالي، يصوّب اليوم أهدافه وسهامه المسمومة نحو إتمام مهمة أسرلة الأرض الفلسطينية كلها، وإيقاع المنطقة العربية برمتها رهينة نفوذه وهيمنته وشراكاته مع قوى استعمارية قديمة، تجدّد اليوم أهدافها التي لم تستطع تحقيقها في وقت سابق، أيام كانت حركات التحرّر الوطني وقوى التنوير والحداثة تقاوم مقاومتها الأشرس، دفاعا عن حق الشعوب بالحرية والاستقلال والتقدم والعيش بكرامة.